الكتابة مغامرة
يمر النص قبل ان يصبح مادة معروضة في موائد الفن والادب , ووجبة من وجبات الثقافة والفكر , بمراحل مخاض عسيرة ..وتعترضه عقبات جمة ومعيقات موجعة , ومعابر محروسة صعبة الجواز…
فهذا الرقيب اللغوي وأشدد به من رقيب عتيد …يمرك على طريق طويل اول مفتشيه سيبويه , وبعد ان يرهقك جرا ونصبا ورفعا , ويشبعك فحصا وتمحيصا ونصحا بالاحتياط , وايقاعا في مهامه التاويل وتعدد القراءات , يجيزك الى الفراهيدي ليزن حتى اوتاد خيمتك بالدانق ومثقال الذرة…قبل ان يستبقيك مدة في غرف الحجز الست عشرة ..ثم تعرج على الجاحظ ليجس نبض نصك ببيانه وتبيينه ويلقي عليك درسا مستفيضا في الفرق بين المقتصد والبخيل….فان وضع الثلاثة ختم القبول على تاشرة مرورك , ووهبوك رخصة التجوال الحر, وظننت ان قد تعديت الصعاب, وتراءت لك الطريق منبسطة سالكة الى العوالم البكر , اعترضتك المفازات التيه المتنفسة بفيح الحميم لتنضب شلال عطائك , وتمتص الندى في نضارة كلماتك , وتذر الغبار الرمادي على الق عباراتك … تجد نفسك في قبضة الرقيب الاجتماعي والخلقي فتشعر بحدة الضغط , والصرامة في التحقيق , والتفتيش في تجاويف حقائب سفرك عن مادة محظورة , او مخدر ملفوف في الجيوب الداخالية ..اوحزام متفجرات لنسف الحواجز المنصوبة امام النصوص المتمردة. …الكاتب في هذه المرحلة من الرحلة يحتاج جرعة جرءة زائدة , ويحتاج شجاعة لاقصاء المعيق حتى يتحرر من الكتابة تحت الوصاية , لا بد ان يتحلى بروح التحدي المسؤول لاختزال بعض الوقفات الشكلية من برنامج التحقيق معه…..
هنا يخبرك حراس بوابات العالم الذكوري ان الكلمة “الانثى”ممنوعة الدخول…قطيع الكلمات الماذون له هو فحول كثئران”الجلابة” كل كلمة فيه طويلة اللحية مثل “كارل ماركس” يتدفق من علبائها وقذالها عرق اسود كريه الرائحة …لامجال ابدا لكلمة فيها تغنج ودلال , فتلك فاجرة تشيطن الضعفاء وتدغدغ مشاعرهم وتحرك فيهم طبعا غير مرغوب , وهنا اما ان تطيع فيتحول النص الى درس محض في الارشاد والوعظ المتشدد..او ترفض الركوع والاملاء فتسجل في الآثمين…
ظاهرة التطرف والغلو والارهاب لا تهدد فقط القادة والسياسيين ..هي مع هؤلاء ظاهرة فتية , اما في المجال الادبي فقديمة قدم الكتابة نفسها , تتجلى تارة في صراع الاصالة والمعاصرة …(معركة التجديد والتقليد …اشكال القدامة والحداثة , الثابت والمتحول) , وغير ذلك من المصطلحات التي غزت الساحة الادبية والنقدية خصوصا…بجيشين عظيمين من المحافظين والمجددين…. هذه حقا مراحل قاسية , مخيفة , مثبطة , صارفة عن رحلة مغامرة غير مامونة العواقب .
فاذا حانت لحظة الحسم , وجاء الاديب المخاض بعيدا عن جذع نخلة يهزه اليه هزا لتساقط عليه رطبا جنيا , يقول له قائل مشفق عليه : ياابن ءادم ما كان ابوك امرأ سوء وما كانت امك بغيا , لقد جئت شيئا فريا ..
الكتابة اذن معاناة ووجع … وءالام , وترقب لاحكام قاسية تصدر في حق كل من ءامن ان سلطة الفن سلطة حاكمة غير محكومة , وان حرية النص ورجولته يتجليان في رفضه الرضوخ لثقافة التدجين…
هي حرية في ظل الالتزام بالمبادئ الكبرى والقيم السامية (دينية – خلقية – اجتماعية – جمالية…وهي قيم ينبغي ان تظل متداخلة) خدمة للامة والفرد في مناحي الحياة المختلفة …..بطرق مباشرة , او غير مباشرة , تلميحا اوتصريحا , وعندها يجب ان ننظر الى النص – شكلا ومضمونا- بعين اخرى مكبرة ملتمسة – بامكانية تعدد التاويلات – الفهم الكبير المشحون بالتاسمح والانفتاح بعيدا عن التقليب لرؤية الجانب الملتصق بالارض , فهو لا شك متسخ معفر بالرغام ….
هدف النص اثارة لقيمة او لمجموعة من القيم , وخصوبته وثراؤه يكمنان في امكانية تعدد التاويلات ..لهذا يرى البعض ان النص الخالد يولد مع كل قراءة , وكاتبه يبقى صاحب النسخة الاولى التي خرجت نتيجة عوامل وظروف معينة….وقد تتغير رؤية الكاتب كما تتغير ءاراؤه وافكاره ومطامحه , لكن النصوص التي كتبها بآراء وافكار قديمة ينبغي ان تبقى كما هي , لانها شهود حقبة , ولانها ابناؤه الشرعيون , ولا يجوز ابدا ان ننكر ابناءنا حتى وان خالفونا الراي والفكر….فبعض الادباء عندما تتقدم به السن يرى بعض اغراضه الادبية القديمة لغوا وفضولا , ان لم يرها ءاثاما تستوجب التوبة النصوح بالحرق قبل ان تعاجله كف المنون…وبذلك تضيع تجارب وحقب وعوالم من الجمال والسحر الحلال…
والماساة ان لابد لزوار وادي عبقر من شر ينتفعون به , وضر يسعدون به , ضريبة يستدرون بها ملوك ذلك العالم الليلي , الجني , المخيف عندما يبدا التشكل الداخلي للنص , واعراض وحم الكتابة , وءالام الحمل , والخوف على الجنين الذي يريدون له ان يكون خلقا سويا….
من صفحة “ذاكو وينهو” على الفيسبوك