ذكرى أحداث 1984 (3) … قوميون عرب في ضيافة الزنوج/ الشيخ بكاي
30 مارس… 2 ابريل
من بين ما سجلت يوم 2 ابريل على “الأجندة” الكُورية البيضاء التي حصلت عليها يومي الثاني في المعتقل:
Torture reached its peak” ( بلغ التعذيب ذروته..)
عن”الأجندة”
أخفيت “الأجنده” أولا بين القمامة المتراكمة في الزنزانة، ومن ثم تحت الفراش، حينما سمحوا به. وحُل المشكل بعد السماح لنا بالكتب.. لكن مشكلها ظل مطروحا بعد أن جمعنا كلنا في قاعدة “الهندسة العسكرية”. فأنا لا أريد أن يطلع غيري على المدون بها.. كان الأصدقاء يرونها معي وأتثبت منهم من بعض الأمور، ولم يكن من بينهم حسب علمي من يعرف الانجليزية، لكني ظللت في غاية الحرص عليها.. واخترت التدوين بهذه اللغة لأن قلة في البلد تفهمها.
عدت إلى الوراء في الأجندة إلى ما قبل اعتقالي في 26 مارس، فسجلت عن الاضرابات والمنشور والكتابات على الجدران.. وعن أول اعتقال في بداية الأحداث؛ وكان في 3 مارس حيث اعتقل طفل من الناصريين على خلفية شجار مع طفل من الإخوان المسلمين يرفض أن يُضْرِب.
وفي 6 مارس اعتقلت مجموعة من تلامذة الثانوية ،من سكان مقاطعة التيارت بنواكشوط. وفي 16 مارس اعتقل شخص باسم “الشيباني”.. وبدأت موجة الاعتقالات الواسعة يوم الـ 25 مارس.. وواصلت التدوين عن الأحداث حتى مرور شهر على انقلاب 12/12/1984
استخدمت حروفا وأسماء رمزية للأشخاص وبعض الوقائع من باب الاحتياط .. و فككت كل شفرة حينما انتهى التحقيق وجمعنا في الهندسة العسكرية.
******** ******* ********** ***********
كان التعذيب على أشده…جلسات أو وقفات يتخللها الصراخ والغياب… وكان التجويع “وجبة” مكملة يقدمها الزبانية لضيوفهم.
بعد أن ينهي وكلاء الشرطة مهام التعذيب يجتمعون في غرفنا ويبدأ كل منهم يروي قصص ما قام به أو شاهد…
أخبار غير مطمئنة عن المرحوم محمد لد جدو… قال الوكلاء إنه في وضعية صحية صعبة بسبب التعذيب.. أجمعوا على أنه صلب شجاع…وكان يتحدث باحتقار إلى جلاديه..
محمد الحافظ ولد اسماعيل، حمود، كابر هاشم، الناتي.. الخليل ولد الطيب .. أسماء أعرفها وأخرى لا أعرفها.. الكل في المسلخة..
تداول الوكلاء بصق أحد الذين يجري تعذيبهم على وجه مفوض شرطة…
لا خبر عن سيدي محمد لبات.. أخبار قليلة عن محمد الامين ناجم، والكوري ولد حميتي.. عرفت إلى الآن فقط أنهما يواجهان أشرس أنواع التعذيب معزولين في قبوين من أقبية إدارة الأمن في ضيافة المدير شخصيا..
عانيت في هذه الأيام جلسات “حارة” مع مفوضي شرطة ومفتشين وضباط..
ومن “أطرف” أعضاء لجنة “التحقيق- الجلد” الضابط “…. بابا”..
كان “… بابا” رجلا “بزقيا” يتحدث بلكنة خاصة، ويقول عنه المعتقلون إنه كان جريئا على ضرب”المناطق الخاصة” في جسم الانسان..كان يهدد فريسته بأن تصبح عاجزة عن الانجاب: ” إلَ عدت ما تبغي اتعود ما اتْرَ الشَّاشره اتكلم”…
بدأت النقود تنفد وهي هنا مهمة لأنها تستخدم في “تطييب الخاطر”، لكنها مهمة لي أيضا، فأنا أعيش على علبة حليب “روز” يهربها الوكيل ديوب، ويهرب لي فيها كأس الشاي بعد أن أفرغها…
الشاي الآن يُهرب لي من زنزانتين واحدة يقيم بها مناضل شاب اسمه محمد الكوري، والثانية هي قصر “القاضي” الاستاذ محمد محمود ولد محمد الامين..
مَنحْنا الاستاذ محمد محمود صفة القاضي ( بعد أن أصبح في مقدورنا أن نضحك) انطلاقا من تصريح حكومي وصفنا بالحركة الخطيرة التي لها محاكم “تصدر أحكاما ضد المواطنين”..
كان الأستاذ محمد محمود أريحيا كريما خلوقا وقد اتخذه بعضنا أستاذا في مادة اللغة العربية حينما جُمعنا في الهندسة العسكرية.. كنت من بين الذين درسوا على يده ما أمكن من “ألفية ابن مالك”…
وفي الهندسة العسكرية أيضا كان أستاذنا في الرياضة البدنية الدكتور محمد الامين الناتي.. أخذنا عنه مصطلحات لم نكن نعرفها مثل “زنكتشو”…
لم يكن دور ديوب تهريب الحليب والشاي فقط.. كان يقوم بمهمة أخطر.. كان كل يوم يسجل نشرات أخبار الإذاعة الموريتاية وينتظر الوقت المناسب ليسمعها لي، وإذا هو عجز يقدم لي تقريرا شفهيا بما سمع…. كنت عبره أتابع في شكل جيد ما تقول السلطة عنا وتوجهاتها العامة…
كان ديوب يصاب بالهلع حينما يقترب شرطي عربي، لكنه يغلق المسجل في هدوء حينما يكون المار زنجيا…
من بين الشرطيين العرب أفراد قلة جدا تعاملوا معنا بتعاطف أو اعتدال أو إسانية.. كان الشرطي العربي يعطينا الانطباع بأن بيننا وبينه حسابات خاصة.. كانوا يتعاملون معنا بوحشية وحقد ظاهر، ويمعنون في احتقارنا..
الشرطي الزنجي يمارس التعذيب أمام رؤسائه، لكنه حينما يتغيب الرئيس يسند الضحية الساقط على الأرض، من فرط التعذيب، ويقول لمن هو قيد الجلد: ” واصل الصراخ” ليواصل هو الضرب على الحائط أو الأرضية، أو يصدر الأصوات التي توهم بأنه يقوم بعمله…
كانت رسائلنا تصل إلى أسرنا عبر الشرطيين الزنوج وكانوا ينقلون إلينا أخبار الأسر.
ولعله من حظنا أن السلطة قررت أن تختار “فرق الموت” على أسس عرقية .. لست أدري هل كان الاختيار عن قصد أو كان صدفة؟.. أنا متأكد فقط أن اختيارها لغالبية العناصر الناطقة بالحسانية كان موفقا.. فقد أظهر هؤلاء من الحقد ما لا يتصور…
يمكنني القول إن نحو 80 بالمائة من أفراد الفرقة كانوا من الزنوج.. وحتى في الهندسة العسكرية حينما جمعنا بها كنا في ضيافة ثلاثة هم المرحوم الرقيب غيسى، والرقيبان لام عبدو اللاي وجوب شيخنا أستاذي للغة البولارية خلال مقامي هناك..
أتذكر أن الرقيب لام عبدو اللاي كان يحملني على ظهره وأنا مصاب في الكاحل إلى الحمام ومنه.. وأتذكر خدمات الرقيب غيسى الذي سماه المرحوم محمد ولد جدو “قيس الكنتي”.. وأتذكر طيبة الرقيب جوب شيخا..
تفاجأت بعد أعوام بالرقيب لام عبدو اللاي يحاكم في الجريدة بتهمة المشاركة في محاولة انقلابية اتهم فيها 50 من العسكريين الزنوج.. وكم كان حزني وأنا أرى الحديد في معصميه… رحم الله العقيد الشيخ ولد بيده الذي سمح لي بأن أعانقه، وألتقي به وأقدم المساعدة… وكم كان سروري بعد ذلك وأنا واقف في منطقة مظلمة في المقاطعة الخامسة أنتظر من يستلم مني كومة من الرسائل حملتها من ولاتة حينما سمحت لي السلطات بصفتي مراسلا أن أزور سجناء الانقلاب و حركة “فلام”.. كانت هذه المغامرة من أجل لام وديوب وموسى، وعبدول جي، وغيسى وغيرهم، ومن أجل موريتانيا تتبادل الاعتراف، ويداوي مواطنوها جروح بعضهم البعض..
لم تعاطف معنا الزنوج إذن؟…
ذلك موضوع واسع آخر لن أتناوله الآن.. أقول فقط إنه برهان ساطع على أن القومي الناصري الموريتاني والزنجي الموريتاني قوميا كان، أو مواطنا عاديا، هما -عكسا لما يراد- وعبر الاعتراف المتبادل واستبعاد الأحكام المسبقة صِمام الأمان لوحدة بلد متعدد الأعراق والثقافات..
اختتمت ملاحظاتي في الاجندة هذا اليوم بما يلي:
“أشعر الآن بجفاف شديد في الجسم وضعف في القوى وصداع .. إنها ليلتي الخامسة من دون أكل وسط “السهرات الحمراء” والرقص على طبول الجن…”
( يتواصل)
201 تعليقات