هكذا حضرت مجلس الوزراء!/ محمد محفوظ أحمد
ضحوة يومنا هذا وأنا مارٌّ بالقرب من قصر الرئاسة، كانت سيارات أصحاب المعالي الوزراء تمر من أمامي في الطريق إلى القصر…
سيارات فارهة لماعة، تساوي عشرات الملايين، تسير بانسيابية لذيذة بين القصرين (مع الاعتذار لنجيب محفوظ)، لا تهزها حفرُ وأخاديدُ ورمالُ شوارع نواكشوط الأخرى، ولا تعنيها إشارات المرور ورجاله الذين هزمتهم فوضى السائقين ورعونتهم، شر هزيمة…
في المقدمة يجلس الشرطي، المرافق العسكري، وفي الوراء يَصون الزجاجُ المظلل، وقيل المصفح، صاحب المعالي عن عيون المارة و”مقطوعي النعايل” من المواطنين أمثالي.
إلا أني لا أشك في أن معاليه يرتدي حلة إفرنجية من بدلة وقميص وربطة عنق ونعلين جديدين… ولا أضمن مع ذلك “دقة المقاييس” ولا رقي الذوق في الجميع!
أما الوزيرات فالعرف أكثر لطفا بهن!
وقادتني العبقرية والتجربة إلى أن هؤلاء السادة والسيدات في طريقهم إلى مجلس الوزراء الأسبوعي؛ فاليوم يومه الخميس!
قلت لنفسي: ما دمت قريبا من القصر فلأحضرنَّ مجلس الوزراء، وأرى حقيقة ما يتحدث عنه ذلك البيان الأسبوعي المحنط!
فقالت لي: تحضر مجلس الوزراء؟ بأي حيلة؛ أما تعلم أن الحائط الشامخ أمامك وراءه الحائط الأصلي للقصر… وبينهما برزخ وحرس وأحراش؟ ثم هب أنك دخلت! بأي صفة ستحضر؟ هل أنت وزير أو كاتب دولة؟!
واصلت تحدي نفسي وقلت: يا ليتني كنت معهم! هي قطعا فرصة عظيمة، لأتقدم بطلبين بسيطين: وظيفة محترمة، وحل “مداخلة ﮔـزرتي” أو منحي طنا من القمح أترك له المدينة كلها لإنقاذ بقراتي العجاف الباقية…
أجل. كل السلطات موجودة هنا؛ لن تكون هناك إحالة إلى وزارة أخرى ولا انتظار مدير ولا مقابلة أمين عام… حتى الرئيس حاضر، وأي وزير سيحيلني إليه حاضر أيضا؛ يجلس في ذات الغرفة، خلف “إضبارته” السمينة!
سوف يقول الرئيس: “عدلو ال هذا المواطن غايتو”…
وما إن ينطقها الرئيس حتى يتبادرني الوزراء والوزيرات؛ كل واحد يقول: أجل سيدي الرئيس؛ هذا يعنيني أنا، فيقول آخر: لا، هذا يختص بقطاعنا نحن… فيتسابقون إلى الملف المترهل بين يدي، كل واحد يريد أن يتولاه، مهما كان مضمونه! وفي لمح البصر تلبى مطالبي الثلاثة بدل المطلبين الاثنين!!
*
تريثت قليلا، كأنما أفكر في الدخول إلى القصر… لكني دخلت إلى دكان قريب من شارع الرئاسة. وجدته دكانا عاديا، كأي “بوتيـﮒِ سقْطٍ” في “سيزيم”؛ صاحب الدكان لا تظهر عليه أي علامات رئاسية ولا وزارية… بل يبدو كأي وﮔـاف؛ يشق الرغيف ويدهن باطنه بالزبدة والشوكلاته… نفس الزبدة الرديئة ونفس سطل الشوكلاته الذين أعرفهما في دكاكين حينا بجوار “اسميعت الصراﮒ” بالمقاطعة السادسة!
والزبائن؟ يا للهول! أطفال “دخن” حفاة، لا يبدو عليهم أي أثر لنعمة القصر!
ثم ألقيت نظرة أبعد في عمق الدكان، لأرى كهلا يبدو أنه هو “البطرون” يفك ويطوي بعض الكراطين ويضيفها إلى حزمة كبيرة كتلك التي تجمع علفا للأبقار والحمير…
فتساءلت نفسي: هل أنا في جنب الرئاسة أم في “شارع ديمي”؟!
قال الوﮔـاف: تفضل!
قلت مرتبكا: أريد قنينة ماء.
قال: باردة أم حامية؟
قلت في تردد: وسط…
قال: لا يوجد الوسط!
قلت: صدقت، هاتها باردة.
ثم خطر لي أن أتقرب إليه واستل لسانه. لكني لم أفلح، فقد قلت مباشرة:
– هل تُهوِّنون الأسعار على الرئيس وأهله؟ وهل “تُدَيِّنون” عليهم…؟
فأجابني “البطرون” من الخلف بضحكة وسؤال:
– ألم تسمع بجيرة الشجر؟!
قلت: بلي، هي جيرة التقاطع والجمود.
قال، وقد وقف يدس حزمة الكراطين فوق أمتعة متراصة: كذلك نحن والرئاسة؛ لا تحية بيننا!
*
خرجت بالقنينة مواصلا سيري جنب شارع القصر. ولكن الذكرى أثارت لي مشاهد شخصية واقعية قديمة من أروقة الرئاسة، واجتماع مجلس الوزراء بالذات…
كان ذلك قبل أن يشيد هذا القصر الداكن. إلا أن بعض الأحداث علت منصة الذاكرة، وأخذت تمثل لي ما يجري في المكاتب الرئاسية:
فالوزراء الذين كانوا يمرون أمامي مر السحاب… حين ينزلون من السيارة أمام المبنى الرئاسي “تنحدر درجاتهم” قليلا فيصبحون موظفين كبارا فقط؛ لأن الأمين العام للرئاسة ومساعديه ومدير الديوان ومدير التشريفات و”بعض” المستشارين… يصبحون هم الأعيان والأكابر “أهل البيت”، والوزراء مجرد وكلاء مأمورين بالحضور؛ فيتصاغرون ويأتمرون بالأوامر، ويتسقطون الأخبار في تواضع من “أهل الرئاسة”، في الانتظار!
ثم فجأة يصغر الجميع ويتضاءلون، ويقفون إجلالا، حين يطل رئيس الأركان الخاصة أو المرافق العسكري، وغيرهما من الضباط ذوي البذلات النظيفة والنجوم والشُّهب المنيفة…!
وقد يطول الانتظار والانكسار بهؤلاء المتكبرين الكبار، حتى بعد دخول القاعة الرسمية لمجلس الوزراء… قبل أن يطل “البطرون الأعظم” فجأة، فلا تسمع همسا ولا نفسا، إلا خشخشة القيام والقعود…
ولئن تذكرت هذه المشاهد وتصورتها قائمة ـ ولا تزال دار ابن لقمان على حالها ـ فإن مشاهدي القديمة تقف عند ذلك: حين نخرج مع المصورين ويغلق باب القاعة.
لكني قادر على تصور ما يجري الآن ـ بعد ما تقدم عند الحضور ـ بل بدأت كأني أشاهد لفصل التالي:
الرئيس يفتتح الجلسة ويعطي الكلام لوزيره الأول الذي يطلب من بعض الوزراء تقديم العروض التي كان ـ مسبقا ـ مقررا تقديمها.
الخلاصة: الأوضاع حسنة جدا، والمواطنون سعداء بحياتهم، متعلقون بالحكومة، يدعون لها سرا وعلنا… لا توجد مشكلة على الإطلاق، إلا ما تعودنا عليه من إشاعات أعداء الوطن… مما تُزين لهم حريةُ الرأي التي تحتل بلادنا اليوم مقدمها في العالم!
ثم يلخص كل وزير ما لديه؛ قيقول إن قطاعه وضع استراتيجية فعالة على مدى ثلاثة آماد: قريبة ومتوسطة وبعيدة…
الرئيس يخرج إلى مكتبه ويعود، ويقول سننهي الجلسة، فيومئ الجميع استحسانا…
وفي النهاية يخرج سكرتير المجلس إلى مكتب مدير الديوان ويسلمه مسودة البيان، التي يعرضها على الرئيس، فيوافق عليها أو يأمر بحذف منها؛ ويتأكد خاصة من صحة التعيينات في الوظائف التي بعضها يسمى “الإجراءات الخصوصية” وبعضها لا يُسمى… ثم يُسلَّم البيان إلى الوزير الناطق الذي ينتظر في الجوار، مع الوزراء الذين أمِروا بالتعليق على تقاريرهم ومشاريعهم…
هذا والله أعلم. وقد حان الوقت لأكف عن التخيل، فقد تجاوزت مباني البنك المركزي ووصلت إلى “نقطة ساخنة” حيث يختفي الخيال!