الطريق إلى اتفاريتي
كان الوقت فجرا وكنا لما نتعارف بعد؛ وانطلقنا في ثلاث سيارات من انواكشوط؛ موريتانيون من أهل الإعلام والسياسة والشأن العام من انواكشوط وبير ام اغرين دعتهم البوليزاريو لحضور الذكرى الخامسة والأربعين لانطلاق ماتسميه الكفاح المسلح.
يوم يحتفل به الصحراويون في منطقة اتفاريتي التي تقع تحت سيطرتهم ويسمونها جزءا من الأراضي المحررة. وهي حوالي ثلث الصحراء الغربية .
كان وقت المسير فجرا ورمضانا، توقفنا في اكجوجت ومررنا بأطار ثم مالبثنا أن تركنا الطريق يسرة نحو منطقة آغوينيت حيث تتمركز وحدة من الجيش الصحراوي في منطقة آغوينيت؛ ليستمرالمسير لبلدة اتفاريتي حيث ضربت البوليزاريو موعدا لنفسها ولضيوفها، وصلنا ليلا وكان الجو مهيبا؛ استقبلنا مضيفونا بحفاوة وكأننا منهم.
حقيقة أن المشتركات كثيرة بينهم وبيننا سواء الألسنية والانشطارية أم الروحية والوجدانية.
وفي الصباح الباكر تسلم الرئيس الصحراوي أوراق اعتماد السفير الزيمبابوي بالجمهورية العربية الصحراوية و بدأ العرض العسكري والسياسي الأكبر.
كان لافتا حضور الجيش والقوات الخاصة والسكان المحليين من تلاميذ مدارس وبدو استقروا مؤخرا.
بدا خطاب الرئيس الصحراوي ابراهيم غالي سليما نحوا وصرفا وهو شيء نادر لدى القادة العرب المعاصرين، فالرجل يعود للكلمة المنصوبة بالجر مثلا لينصبها بعد جر؛ تكرر ذلك مرتين في حديثة ولم تستطع ذائقة السامع أن ترصد له كبوة.
أعلن الرئيس غالي استعداده اللامشروط للتفاوض المباشر مع المغرب وانسجامه مع روح قرار مجلس الأمن الأخير الذي يمدد لستة أشهر مأمورية المينيرسو.
رسائل الحرب لم تظهر وكانت الآلة الحربية والقوة النارية محجوبة طيلة الاحتفال. إلا ماكان منها موجها لمكافحة الإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة.
المقاتلون الصحراويون في تسعة أعشارهم تقريبا وُلدوا وترعرعوا في اللجوء، أحلامهم أكبر من أجسادهم ودوافعهم أشد وقعا حين تحدثهم منها حين تسمع عنهم.
يحبذون أن تناديهم بالمقاتلين بدل الجنود، لأنهم متطوعون لا يستلمون أجرا، رتبهم العسكرية مخفية لكنهم ينتظمون بتراتبية لاتخفى على فطن. عجنتهم القضية فجعلت منهم رجالا قبل البلوغ.
تلمس فيهم جاهزية عالية ونفسا ثوريا مكثفا وطويلا، لكنهم يعون مفردات السلم والحرب في معادلة سرمدية تطبع إجاباتهم بشكل قاطع.
لا يخفي القادة الصحراويون أن مقترح الحكم الذاتي المغربي ولد ميتا في نظرهم ويقابلونه باستفتاء لتقرير المصير معدل بثلاث خيارات للمصوت وهي القبول باستقلال الصحراء والقبول بالبقاء ضمن المملكة المغربية والقبول بالحكم الذاتي.
كانت الجزائر الرسمية غائبة رغم الحضور الإعلامي والجمعوي، وحضرت وفود إفريقية ولاتينية إضافة إلى جمعيات أوروبية.
السياسة كانت إكسير المؤتمر في الخطابات الرسمية والشعارات والمحادثات الجانبية.
وفي المساء كان لأزوان الحساني موعد، افتتحت فرقة الشهيد الولي الموسيقية ذائعة الصيت حضورها المسرحي بالأغنية الحماسية الخالدة “يخوتي ذي الصحرا ماتنباع” وكان الحضور في صمت وحبور. الغريب أن نغمات هذه الأغنية هي في مقام لبياظ المعهود للبكائيات والوجدانيات؛ لكنها صارت تأشيرة دخول لللاجئ الصحراوي الفنان حين يغني.
ثم مالبثت حناجر الفرقة أن داخلت الأغاني وكلماتها بشكل غريب وجميل حيث أنشدوا في مستفتحات الموسيقى الحسانية (اكحال كر) وبشكل غنائي مريع. واستمروا في استحضاراتهم الثرية من موروث أزوان الثري، فجالوا وصالوا في مقامات (سيني كر) ولكحال؛ مع احترام ورصد للعروض الحساني حيث تم الترنم بأبيات لهجية (گيفان) من بت بوعمران في سيني.
كان الفنان الضرير (ادريببه) نجم السهرة بامتياز حين غالب فقدان البصر واقفا واستبكى وبكى لكنه تدثر بدهاء بوعاء ردات لبياظ.
اللاجئ الصحراوي حين يغني أو يتغنى فإن أناجيل الأغنية السياسية تتغطي وتمتزج بالحب والحياة والتصوف.
إنهم وفنهم وإيقاعاتهم وترانيم وقسمات وجوههم أكبر عنوان للفجيعة وأكبر دثار لسفر اسمه القضية الصحراوية.
لا شيء أكثر فصاحة ويشعرك بالعجز ويضع علامات استفهام الأقلام المسافرة والأرواح المهاجرة في نزاع مسلح؛ أكثر من وجه لاجئ وابتسامة لاجئ وحنين لاجئ.
اسماعيل يعقوب الشيخ سيديا- من صفحنه على الفيسبوك
12 تعليقات