الصيام والإفطار بين: الرؤية البصرية والحساب الفلكي/ محمد السيد
“حديث الإفطار”
الصيام والإفطار بين: الرؤية البصرية والحساب الفلكي
كثيرا ما راودتني فكرة – لمّا تتحقق فرصتها – ألا وهي تخصيص حيّز من الوقت لكتابة سلسلة حلقات فقهية متتالية في هذا الشهر الفضيل، جال بخاطري أن تكون تحت عنوان: “الأصالة والمعاصرة في الدين”، أتناول فيها الجدل الذي لا يهدأ إلا ليثور حول بعض الأمور الفقهية الآنية مثل: “الموازنة بين الرؤية البصرية والحساب الفلكي في الصيام والإفطار”، و”إخراج القيمة في الزكاة”، وشبه ذلك من الأمور التي استدعت الظروف الفكرية والمعيشية اليوم تجدد البحث فيها.
ذلك أن مرارة الواقع المزري للأمة الإسلامية اليوم قد أريك بعض أصحاب الأقلام الإسلامية في سياق تلمس “حداثة” – لعل وعسى – أن تشكل المرهم القاضي على فيروس التخلف والخذلان الذي اقتحم جسم الأمة؛ فتركها في موت سريري، لا هو بالموت ولا بالحياة.
غير أن هذا التلمس – المشروع بالطبع – لا ينبغي له أن يتجاهل جدوائية إعادة صياغة السؤال بالشكل الآتي: “هل المرهم المطلوب موجود في الحداثة أم في الأصالة”؟
لا يعزب عن ذهني أن الإجابة على سؤال كهذا في صيغته هذه، يتطلب من البحث المعمق طويل الذيل عريض الباع، ما لست أنا بصدد اقتحامه في هذه السطور. بل إنما همّي هنا هو الاقتصار على إحدى زواياه العملية الضيقة، ماثلة في الحديث المتكرر كل ليلة من ليالي رمضان خلال حلق الإفطار، عن الموازنة في الأولوية الشرعية بين الرؤية البصرية والحساب الفلكي في الفطر والصيام. وهو التكرار الدائم الذي جعلني أضع هذه السطور تحت عنوان “حديث الإفطار”.
– ليست هذه الموازنة حديثة في جوهرها بالكلية، ولكن موضة العولمة وشهية الحداثة قد أكشباها زخما جديدا ينساق خلف رياح البحث عن التغيير في كل شيء. لهذا، لن يتجاوز مجهودي في هذه السطور عرض “أساسيات” حجج “الرأي والرأي الآخر” في الجدل الفقهي التقليدي باختصار شديد، كما دونه علماء الأمة. وذلك سعيا إلى إنارة علم من لم يسبق له الاطلاع على أقوال العلماء في هذا الموضوع، وفي ضوء وجود “إمساكيات” رمضانية ومواقع ألكترونية يتشبث البعض بمضمونها على حساب الرؤية البصرية، كما يتشبث غيره بالرؤية البصرية وحدها.
أولا: أدلة المرجحين للأخذ بالحساب الفلكي: اعتبر هؤلاء:
1- أن علم حساب الفلك كان دقيقا منذ القدم، ولا يفتأ يزداد دقة مع تقدم العلم وتطور الزمن. ولهذا ظل حساب الخسوفات والكسوفات قطعيا. والعلم إذا كان قطعيا وجب العمل به.
2- أن الله تبارك وتعالى قد قال في محكم تنزيلة: ((والشمس والقمر بحسبان))، ((والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم))؛ فهذا الحساب لا ينخرم أبدا.
3- أن العوائد إذا استمرت أفادت القطع؛ فإذا رأينا لأول مرة – على سبيل المثال – شيخا طاعنا في السن، جزمنا بأنه لم يولد شيخا، بالرغم من أننا لم نره قبل ذلك. وما هذا إلا لتحكم العوائد وقيام اطرادها مقام القطع الذي لا يعتوره الشك.
وبهذه الأدلة يكون الحساب الفلكي قائما مقام العلم الذي يحصل به العلم اليقيني؛ فيلزم العمل به تبعا لذلك.
هذه – باختصار – أهم أدلة الطرف المتمسك باعتبار الحساب الفلكي في الصيام.
ثانيا: أهم أدلة الرافضين للحساب الفلكي في الصيام والإفطار: اعتبر هؤلاء:
1- أن الله تعالى قد فرق بين الصوم والصلاة في “الأسباب” المؤذنة بوجوبها.فأناط الوجوب في صلاة الظهر مثلا بزوال الشمس ((أقم الصلاة لدلوك الشمس)). وأشار تعالى لمختلف أوقات الصلاة في قوله جل من قائل: ((فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، وله الحمد في السماوات والأرض، وعشيا، وحين تظهرون))؛ فالآية، كما قال العلماء، أمر بإيقاع هذه الصلوات في هذه الأوقات. ولهذا لزم حساب الوقت في أوقات الصلاة.
أما الصيام والإفطار، فقد أناط تعالى وجوبهما بالرؤية البصرية ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) وفي رواية: ((فإن غم عليكم فاقدروا له)).
وبهذا كان “السبب” (الذي يلزم من عدمه العدم ومن وجوده الوجود) في الصيام والإفطار هو “الرؤية” كما صرح بذلك الشارع.
2- مختصر رأي الغالبية الساحقة من علماء الأمة في هذه المسألة يتلخص فيما يلي:
أن حساب الفلك لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون منضبطا، أو غير منضبط؛
– فإن كان غير منضبط: فلا عبرة به شرعا
– وإن كان منضبطا: فلم ينصبه الشارع “سبباً”؛ فلم يجز الصوم به (نقطة انتهاء)ِ
والله ولي التوفيق
من صفحة الدكتور محمد السيد على الفيسبوك
111 تعليقات