إساءة الإحسان/ من صفحة “ذاكو وينهو”
إساءة الإحسان:
كان قمرإحدى وعشرين يطل بعين رمداء من التل المكتنف بغشـــاء غليظ من غبار يوم عاصف , وكانت ألسنة اللهب أمــــام خيمة المبروك تلحس الهواء لحسا خفيفا, والريح تنبئ من وقت لآخر أنها لم تهجع بعد, فتحول (أكورار) إلى بطن حبلى تارة وطورا إلى خصر هيفـاء, قال أبو عمران: لم أر كاليوم ما فشا في الناس من إساءة الإحسان! قال أبو ليلى: ماذا تقول؟ أليس بين الكلمتين تنافر؟
قال أبو عمران: لولا ذلك لما كان ثم وجه للاستغراب, واعلم يا أبا ليلى أن جدي لم يكن يفوح بالمال ذات اليمين وذات الشمال ولايبالي, وما كان يترفـــــــع عن أخذ بقية نقوده من بائعات الصمغ معتبرا ذلك لؤم طبع,وما كان ينحر البدن والجزر للمغنيات بأمجاد القبيلة, فــــــــــــما كان جدي الوليد, ولا السفاح , ولا المعتصم, إلا أن جدتي لم تكن الريح المرسلة , فلم تكن تجيع أطفـــــــــــالها لتطعم أطفال اليهود والقطط السائبة لكرم أرومتها, فليست بنت إسماعيل ولا يوسف ولايعقوب ولا حتى أبرهة الأشرم؛
لذلك اكتشفـــــــت أن كثيرا من بشر اليوم يتملصون من مسؤولياتهم نحــو أولادهم ليلقوها على آخرين؛
فظاهرة إرسال الولد الذي أكمل دراسته فـــــــي مدرسة الحي إلى المدينة ليتابع ويكون نزيل قوم آخرين لا مشكورين ولا مأجورين ظـــاهرة منتشرة, ومن أضرارها على الولد الحرية التي يتنفسها في الجو الجديد, وسرعان ما يمل من الدروس ويتوقف لا فــي منتصف الطريق بل في بدايتها, فيكبر على الجهل ومضاره.
والغريب أننا نرحل إلى بلاد قصية, ودول أجنبية لتنمية رؤوس الأموال والبحث عن مشاريع للاستثمار, وأي رأس مال أغلى وأدر من طفل يرعــى ليصلح؟ الولد بالمقياس المادي البسيط مشروع اقتصادي إذا سهرنا عليه سهرنا على مشاريعنا الزراعية أعطى أكثر منها بما لايقبل المقارنة.
أما المخاطر الاجتماعية, يا أبا ليلى فــكثيرة, ولا تستغرب إذا قلت لك إن كل طفل تسكنه معك هو عداوة محققة مع ذويه, وهذا هو معنى قولنا إساءة الإحسان, واعلم أن هؤلاء النزلاء الجدد يطلبون منك مــــا يلي:
1- كوكبة من المطربين فـــــيهم إسحاق الموصلي, ومحمد عبد الوهاب, وأم كلثوم, وولد انجرت يغنون لهم أناشيد الترحاب كلما عادوا إلى المنزل صباحا وبعد الظهيرة وعشاء وحين السحر.
2- فرقة عسكرية تقدم لهم تحية الشره عفوا الشرف ذهابهم وإيابهم
3- جوقة شعبية متخصصة في الفولكلور تنقر الطبل وتغني بأمجاد أسرهم
4- نخبة من الشعراء من بينهم أبو تمام, والبحتري يصفون برك آبائهم وفتح عمورياتهم
فإذا ضمنت لهم هذا يا أباليلى اكتفوا بمايلي:
1- محاولة مداهمتك في غرفة النوم متلبسا بجريمة الاستراحة
2- تعذيب أطفالك وتخويفهم بخنق الصغير, وغرس الأظافر في الرضيع, وتعريض دفاترهم للغنم لتأكلها, والتحرش ببناتك وإذاعة أنهن أقبح فتيات المدينة
3- إشاعة فيمن يزورونهم أن طعامكم رديء, ولحمكم قليل نصفه مصارين ورئة, وثلاثة أضعاف لبنكم ماء
4- أمكم تسقي أطفالها اللبن الصراح, وتهرق قربة ماء على إدام النزلاء
5- أطفالكم يتغدون مرتين, مرة مع النزلاء ومرة في غرفة النوم بما تخصصه لهم الأم العدو
6- يقسم بعضهم أنه عد يوما حبات أرز الغداء فوجدها لاتتجاوز 12 حبة يتحلق حولها 17 نفرا.
7- إتلاف الأثاث بنتف الحشايا, وتمزيق لباسها, وترك المصباح مضيئا طيلة النهار
ثم إذا عادوا إلى أهلهم أطلعوهم على مــــــــــــا كانوا موضعه سنة الضيافة من تجويع وقسوة حال, ورداءة عيش, وسوء خلق أهـــــــــل البيت من الرضيع إلى الأبوين , وإذا كان المثل يقول (والدوكم قادرون) فإن(أولادكم صادقون وإن ادعوا النبوة), وعندئذ يتعاون الأهل والعائدون على إذاعة بخلك يا أبا ليلى , وتلفيق الفـــضائح وإلصاقها بك, وليس ذلك غريبا فلم يكن جدك ينحر أودية الإبل إحياء لمجد القبيلة, ولم تكن أمك تقطع أثداءها لتطعم أيتام العصافير..