ضجيج الكلمات التي لا تقال… إضراب أرباب العمل، (اتحادية أطبَّاء العيَّادات)/ الدهماء
في جو مُنعشٍ و صباحٍ هادئ جميل، أبكرتُ لإحضار مُمرضة لتأخذ عيِّنة دمٍ من والدتي المُقْعدة بالبيت،.. و أمام مُختبرات التحاليل المتجاورة كانت حركة المراجعين نشطة مع تباين في مستوى التَّوزيع، حيث بَدَا بعض المختبراتِ مُكتظًّا والبعض شبه فارغٍ،.. خمَّنْتُ أن حظِّي في الحصول على غايتي سيكون أوفر في مختبر تبدو الحركة أمامه ضعيفة،.. في الطَّريق الى البيت سألتُ المُمرَّضة عن السِّر في ضعف الإقبال عليهم مقارنة بجيرانهم وهل للمسألة علاقة بجودة أجهزة التَّحاليل مثلا؟،.. فردَّت عليَّ: « لا، بل لأن مُشغِّلي لمْ يقبل بما قبلوا به!» ..
استغربتُ،.. و بعد صمتٍ، استأذنتُ المُمرِّضة ثانية في سؤالها عن الشيء الذي راودوا عنه مُخْتبرهم “البائر” فاسْتعصم، وقَبِلَ به جارهم “الرَّائج”، فقالت: « الإقبال الشديد مردّه أن هذه المُختبرات تتَّفِق مع بعض الأطباء ليوصوا مراجعيهم بإجراء التحاليل لديها، ثم يَعْمد المختبر يوميًّا الى جرد توقيعات الأطباء على وصفات التحاليل و يعطي عمولة للطَّبيب الذي أرسل إليه أكبر عدد من المرضى » !…. صُدمتُ.. واستغرقتُ وقتا لأستوعب ما يَعْتمِل في صدري.. لطخة إنسانية هيَّ إنْ كانت!!.
هل يُعْقل أنَّهم “يتفاهمون” في بُرْصة مغلقة، يتداولون فيها دماء المرضى كأسهم مالية،.. هل تقلَّل بعض الأطباء مَصَّ جيب المواطن فالحقوا به مصَّ دمه وبَصْقه بَانْكنُوتْ،..
الفحص مرادف لرغبة الطبيب في استبيان العِلّة، لكن الظَّاهر أن رغبة بعضهم شيطانية لا استشفائية… من يتصوَّر أن يتعاضد الطبيب والمخبري مع البعوض وسوء التغذية وديدان الأمعاء والبقِّ لمصِّ البقية الشحيحة من دم المواطن.
طبعًا لن أُعَمِّمَ… فبين ظهرانينا نخبة شريفة نظيفة من خيرة الأطباء، تعمل في ظروف قاسية مع مُجتمعٍ مُتخلِّفٍ مُتَرَيِّفٍ، عجزت النَّظافة والمدنِيَّة عن النَّيل منه، و سألتمسُ للآخرين بعض الإنصاف، فمن المُحتمل أن تَدْخُل رواية المُمرِّضة في إطار صِراعات التَّنافس التقليدية بين أصحاب المهنة الواحدة…
لكن الحقيقة الأكيدة أن اهتزاز الثقة بطَبِيبنا أرخى بظلالٍ قاتمةٍ على علاقته بالمريض. و الحقيقة المرة أن تولِّي الكادر الوطني لشؤون الصّحة كان بدايةً لتقويمٍ زمنِيٍّ غير صِحيٍّ في تاريخ موريتانيا الطبِّي.
كلَّما سَمَا الغرض كبرت المشقَّة، إلا أن مهنة الطّب التي كانت سامية، وشاقة لسُموِّها، لا تعني اليوم لبيادقها أكثر من وسيلة للثراء السّريع من دون مشقَّة ولا شفقة… ضَيَّعت الضَّمائر المُتعفِّنة روح القسم وأضاعت حدود واجباتها وأرهقت الوطن والمُواطن بالاستشفاء في الخارج، وقَصَمت ظهور القبائل والمجموعات بالتأمين الصّحي على افرادها ..
تَفحَّصْتُ الإضراب، وتدثُّر بعض الأطباء ” بحق” المواطن في مجانية الصِّحة قبل حقِّهم في زيادة الرَّواتب!.. رَتْلٌ من المطالب النبيلة اصطفَّ في بلاهة بروليتارية يُؤدي تحية خِداعٍ رائعة لمواطن قد كَفَر منذ عقود بصحَّةٍ لا تُداوي وتعليمٍ لا يُعلِّم و أمْنٍ لا يؤمِّن.. ولا أظُنُّه مهتم بمحاولة الأطبَّاء لرتق جسر الثّقة بِغُرَز غير مُتقنة،..
شعارات مُخاتِلة تحطَّمت فورًا على صخرة المصالح بعد قرار الوزارة الرَّخوة بمعاقبة العيَّادات التي تُشغِّل أطبَّاء من الوظيفة العمومية.. فَعُلِّق الإضراب وطُويت المُثُل فداءً لعيونِ المال.
ولذلك عجزنا أصلاً عن التَّعاطف مع اضرابهم حين حاولوا إظهار ما ليس فيهم، و بالغوا في المنِّ على الوطن بخدماتهم!.
لقد جعلوا لِشهرٍ من ضَحايا يتلقَّون التَّعازي في أنفسهم قبل دخول غرفة العمليات و يتحول زُوَّارهم إلى مُشيّعين ومُكبِّرين بأربعٍ دروعًا بشرية للمساومة على رفع الرواتب..
الشِّعارات رغم نُبلها الظّاهري لم يَقتنع بحقانيَّتها من ينتظرون منذ اليوم الأول للإضراب على الشَّريط الحدودي الفاصل بين الموت و الحياة ..أما الذين سئموا الانتظار فقد رحلوا في الأثناء.
مُضْحك أن يفكّر بعض الأطباء في المواطن بعد أن هَجَروا المراكز الصّحية، وحوَّلوها إلى هياكل آلت فيها السّيادة للألم، ،.. وتركوا المرضى حقول تجارب للمتدربين و طلاب كلية الطب، يهتكون فيها عورة الإنسانية، ثم تفرَّغوا لإعمار العيَّادات الخاصَّة لبارونات الصِّحة من كبار الأطباء،.. فنادق “صحية” استنزفت أطقُم المستشفيات وافسدت أجيال الأطباء لِحاقًا ببريق المال،… ويقتصر دورها على توفير “الاستجمام الطبي” لعمّال المصارف والمؤسسات الكبرى… و توفير الموت الرَّاقي بمستوى من البريستيج الاجتماعي لأنصاف المَيْسورين وأسرهم..
التجاء المواطن للطبيب الأجنبي كان عن خيبةٍ،.. فهو يلتمس لديه الرّفق و فضيلة الإصغاء لألمهِ، ويبحث عن مقابلٍ زمنِيٍّ مُنْصفٍ لقيمة المال الذي دفع للمعاينة الطبية عن حاجةٍ وغلبةٍ وهوَّ صاغر ..
المُفاضلة بين الطبيب الوطني و الطبيب الأجنبي الذي اسْتقدمَتْه الدولة ليست فقط في الرَّاتب وإنْ تساوت الكفاءة، بل أيضًا في السلوك المُتحضِّر والإنساني مع المواطن الذي ضاق بالاستعلاء ورعونة المعاملة في المستشفيات العامة حيث تَتَصدَّع نفسه وتُسلب روحه اهمالاً،.. و من الإنسانية مدفوعة الثمن في العيَّادات الخاصة حيث يُسلب ماله ويُحلب جيبه، ثم ما تَلبثُ روحه أن تقتفي أثر مالهِ وتصعد الى بارئها وهي مُعْسِرة، تلوِّح لجثمانها في حسرة أنْ موعدنا الجنة!.
تكون الديماغوجية قبيحة حين ترتدي معطفًا ببياضِ الفضيلة، وتحُفَّ رقبتها بسمَّاعة منكَّسة صمَّاء، تَسْخر منها احصائيات شواهد القبور،.. أصبح للموت في مستشفياتنا فنونا وتخصُّصات..
في قسم الحالات المُستعجلة، حيث يتعجَّل المريض النَّفير الى قضاء الله، وحيث القلق المُضْني والإحساس بالضآلة والاغتراب في الوطن ، يتوهَّم المواطن البطر بحسن الظَّن والتفاؤل أن الطبيب الذي أنفق عليه من خزينة المال العام في أغلى وأعلى كُلفةٍ للتَّكوين سيأتي لإنقاذ روحِه عَجلاً … فلا يأتيه أصلاً!،.. لقد ذهب لعيَّادة خاصة!.. ونقْل الدَّم خدمةُ هلاكٍ مُحتمل مع ضمان التَّوصيل السَّريع الى مقبرة الرِّياض.. و الأدوية تذكرةُ صعودٍ الى رحمة الله في السماء.
يدفعُ المواطن المحجوز من جيبه الضَّامر بَدلَ إهانةٍ واحتقارٍ ابتداء من ضرائب البوَّاب البذيء، الى اكرامية للمُمرّض الضَّجر من السَّهر على حُقنةٍ في وريدٍ بائسٍ، إلى…، هذا واقع يومي بذل فيه المواطن الصَّبر الأكبر!.
أتفهمُ بعض المواطنين المُحبَطين انْ هم آثروا التَّعلُّق بأوهام الطّب الشعبي البدائي، وإنْ هم استعادوا في الألفية الثالثة تداوُلَ العابرِ الغابرِ من أساطير التَّطبب بالشعوذة، بدلاً من الاستثمار في سرابٍ طبِّيٍّ مُراوِغ من التحاليل و الدَّواء المغشوش، وفي وَهْم الشفاء على يد طبيب مُنفَرج الشَّهية، تفنَّن في الأخذ بخِناقهم..
وحده الفقير من دفع ثمن الإضراب في المستشفيات التي تُنفق عليها وزارة الصّحة انفاق من يخشى الفاقة،.. فالغني يَستطبُّ أصلاً في الخارج،…
……………….
أصحاب المعاطف-العواطف “البيضاء” تصبحون على يقظة ضمير.