الحل في الحل.. وهبتك لشيبتك…
لم يزل الكتاب منذ فجر التاريخ يستدرك اللاحق منهم على السابق، والمعاصر على معاصره. يتم ذلك بأساليب مختلفة منها العلمي الهادف إلى تصحيح معلومة أو تصويب رأي بأسلوب رصين وأدب جم، ومنها ما يصدر عن خصومة تربص المستدرك فيها ثماني حجج حتى أعياه الرصد دون طائل فتوهم الظفر ب”خطيئة” تسوغ له إعلان الحرب..” الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين ورضي الله عن الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين.” هكذا استهل الدكتور ابن مزيد استدراكه على الكنتي، ثم قال:” ذكر الدكتور الكنتي في مقاله الحل في الحل معلومة غير صحيحة وغير منطقية وهي أن البنا ترشح للنيابيات وهزم.”
يورد الدكتور روايته، ويحيل إلى مراجعه.. “اقرأ كتاب الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ (1/365-366). واقرأ كتاب حسن البنا من الميلاد إلى الاستشهاد (ص: 183) وجريدة الأهرام 13/5/1984.” وهذه إحالة سأجعلها دبر أذني فأحمل الفعل على النصح والارشاد، وأستكمل المعلومات الناقصة…
الكتاب الأول من تأليف عضو الهيئة التأسيسية لجمعية الإخوان المسلمين، خريج كلية الزراعة محمد عبد الحليم. بين يديّ نسخة ألكترونية منه نشرتها دار الدعوة، يقول محمد عبد الحليم في مقدمتها..”…طال الأمد على الكلمة المسجونة في أغوار الذاكرة أكثر من عشرين عاما حتى بات استخراجها منها أمرا عسيرا. واختلطت الكلمات في سجنها بعضها ببعض بفعل الزمن حتى لم يعد صاحب الذاكرة يعرف أيها السابق وأيها اللاحق، وتداخلت التواريخ،… هذه حقائق مرة واجهتها في أول يوم أمسكت فيه بالقلم لأسجل أحداثا لهذه الدعوة… وجدت مخزون ذاكرتي على ما صورت. وحاولت الرجوع في شأن هذه الأحداث إلى مرجع فوجدت الساحة خالية الوفاض…أغفل الإخوان في غمرة فنائهم في دعوتهم أن يولوا ناحية التسجيل أدنى اهتمام…” ص:12. ورغم ذلك ألف الرجل سفرا من عدة مجلدات!!!
يورد محمد عبد الحليم في هذا السفر معلومات غير صحيحة كان حريا بابن مزيد أن يستدركها عليه بحصافة وأدب جم. فهو يقول عند حديثه عن البنا..” ولما أتم حفظ القرآن الكريم التحق بمدرسة المعلمين الأولية بدمنهور.” ص:57 ويقول البنا عن نفسه، في مذكرات الدعوة والداعية..”… ولكنه كان أمام عقبتين… وعقبة إتمام حفظ القرآن الكريم إذ إن ذلك هو شرط القبول… وقبل منه التعهد بحفظ ربع القرآن الباقي، وصرح له بأداء الامتحان…”(مؤسسة اقرأ 2011، ص15 ). أما الطامة الأخرى فهي نسبته قصة عمرو بن عبيد المشهورة مع المنصور إلى هارون الرشيد!!! يقول:”…فنظر إليه الرشيد وشيعه ببصره وهو يقول.. كلكم يطلب صيد… كلكم يمشي رويد… غير عمرو بن عبيد” ص:286. مات عمرو بن عبيد رحمه الله سنة 143 أو 144 هجرية كما ورد في سير أعلام النبلاء، وولد هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور سنة 149 هجرية، بعد موت ابن عبيد بست أو خمس سنوات!!!
هذا هو المصدر الذي يعتمد عليه ابن مزيد للاستدراك على الكنتي! أما المصدر الثاني فهو كتاب “حسن البنا من الميلاد إلى الاستشهاد” أسرار يرويها شقيقه جمال البنا، إعداد زينب أبو غنيمة. وإني لأعجب لإخواني يستشهد بجمال البنا!
ترشح البنا رحمه الله للنيابيات مرتين؛ الأولى سنة 1942، تنازل عنه، والثاني سنة 1944. بخلاف ما سرده ابن مزيد لم يذكر عبد الحليم تدخل الانجليز لمنع البنا من الترشح وإنما كان النحاس هو من تولى ذلك، ولم يتعهد للبنا بشيء وإنما هدده بشكل صريح حين استدعاه إلى مكتبه.. “وسأنقل هنا نص ما جاء في تقرير الأمن العام عن هذه المقابلة وعن هذا الموضوع عامة وقد نشره في جريدة الأهرام في 14-02-1975 الدكتور رمضان… وأن رفعته رأى أن يدعوه لينصح له بالتنازل وإلا اضطر إلى اتخاذ إجراءات أخرى يراها رفعته قاسية… ولما استوضحه تلك الاجراءات قال رفعته إنها حل جماعات الاخوان المسلمين ونفي زعمائها خارج القطر…” ص:295-296. ثم يضيف عبد الحليم..”…وقد أوردت ما جاء بتقرير الأمن العام عن هذه المقابلات لأنه هو فعلا نص ما حدثنا به الأستاذ المرشد عقب رجوعه من كل من المقابلتين،…” ص:296. فلا ذكر لتفاوض، ولا تعهدات، ولا ضغوط إنجليزية!!
تلك رواية مرجع ابن مزيد الموثوق، وهناك روايات أخرى في مراجع ما قرأها ابن مزيد.. يقول محسن محمد في كتابه من قتل حسن البنا..”حل النحاس مجلس النواب بعد 3 أيام من توليه رئاسة الوزراء فقرر الإخوان دخول المعركة التي قاطعتها الأحزاب الأخرى.”(متعودة، دايما!)، الطبعة الأولى 1987، دار الشروق، ص:48. “الرواية الأولى قالها حسن البنا…دعاني مصطفى النحاس باشا إلى مكتبه وطلب مني التنازل عن الترشيح. فلما سألته عن الأسباب قال ألا يكفي أن الحكومة قيدت خطواتي… قال مصطفى النحاس: في حالة قبولك التنازل، لا مانع عندي من أن تكون لك حرية الدعوة… قال البنا:- أمام هذا التصريح أوافق على التنازل عن ترشيح نفسي.”ص:48. ويقول تقرير للمخابرات البريطانية: “خشي النحاس أن يثبت حسن البنا أنه منافس قوي للوفد وهدده بالاعتقال مع كبار قادة الإخوان إذا لم يذعن وهدده بمحاكمته أمام محكمة عسكرية بتهمة التجسس. وهدده النحاس أيضا بنشر اتهامات مزعومة حول أسلوب البنا في التصرف في أموال الجماعة. ورد النحاس للبنا 450 جنيها كتعويض عن التأمين الذي دفعه مقابل الترشح ونفقات الدعاية التي صرفها.”ص:50. وهناك روايات أخرى يضيق عنها المجال.
ترشح البنا من جديد سنة 1944 في انتخابات قاطعها الوفد، ولم يستطع البنا الفوز من الدور الأول، وإنما دخل شوط الإعادة الذي شابه تزوير اشترك فيه الانجليز والحكومة. وتعاونا “…تعاونا يكفي لإسقاطه [البنا]…” عبد الحليم،ص:326. ينقم ابن مزيد من الكنتي قوله إن البنا “هزم” ويعدها “فرية”! ويقول عبد الحليم، مرجع ابن مزيد الموثوق، “… وتعلن نتيجة الانتخابات بسقوط المرشد العام في الدائرة…” ص:328. فما الفرق بين هزم في الانتخابات وسقط فيها!
لم تكن “هزيمة” البنا هي ما أثار حفيظة ابن مزيد وإنما عجز التنظيم طوال ثماني سنوات من المواجهة عن مقارعة حجج الكنتي الذي مر به أبطالهم كلمى هزيمة في هذا الفضاء الأزرق… أما الفرية يا ابن مزيد فهي ما “تلقونه بألسنتكم” من هتك عرض الكنتي نثرا وشعرا يستوي في ذلك قادتكم وسوقتكم، لكن ذلك لن يثنيه عن نشر “فضائح الباطنية”، وأن يظل عليكم “الصارم المسلول”. أما أنت يا ابن مزيد فقد وهبتك لشيبتك…(وأن تعفوا أقرب للتقوى).
105 تعليقات