روح الطَّمع الوطنيَّة/ الدهماء
في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، وخلال سكرتنا في وهم حلم النفط، حَلَّت بالحي أسرة أسترالية .. رفيعة المركز حتمًا بدليل الكم البشري واللوجستيكي المحيط بها،.. سيدة البيت شابة شقراء بشعر ذهبي، فارعة الطول متوحشة الجمال، ساحرة الابتسامة… قطعة من فجر.
بعد أيام قليلة بدأت الفاتنة الاحتكاك بمحيطها من عالَم الشارع، تنتصب كالمئذنة أمام البيت، تداعب الأطفال بحنان معْطار، وتلوِّح في ودًّ للعابرين من الجيران.
مع الإرهاصات الأولى لاكتشاف النفط ، تدفَّقت موجات من الاستراليين لعِبوا و تلاعَبوا ورحَلوا،… و في البلد كلّ ولعبته المتاحة.. قلّةٌ لعبتْ معهم ومثلهم بالبئرين في وضح النَّهار، فزادت من أرصدتها.. وأغلبية ظلت تلعب في الليل – كما كانت – وتضاعفت خلفتها! … و تتناسلت من حولها الإحباطات بخصوبة.
بعد شهر من حلول الأسرة الاسترالية بحيِّنا، دخل عليَّ ابني مستعجلا، يريد صورة شمسية موقعة، تطلبها “النصرانيه”، .. استفسرته عن الأمر، فأوضح أن السيدة ستوزع بعض المساعدات على أبناء الحراس المجاورين، سألته وأنت منذ متى كنتَ منهم؟.. قال لي: إنهم (هو وابن مسؤول رفيع في وكالة دولية، وثالث، ابن موزع للأدوية)، إنهم بعد نقاش “معها” أقنعوها بضرورة اشراك الجميع في الصَّدقات!..لكنها تشترط الصُّور الموقعة،.. ابني في السَّابعة من عمره ويريد أن يصبح شحَّاذًا رسميًّا لدى دوائر قرصنة نفط بلده.. ويفاوضهم على الرَّخيص كالحكومة ليُصنَّف من أطفال الحي الأكثر فقرا.. ألقيتُ عليه محاضرة بأن يترك للمحتاج فرصة الاستفادة من المعونة.. وطبعا، تعظيم مُثل الأنفة، والتَّرفع و..، فتظاهر بالاقتناع…
كنتُ يقينًا محصّنة من الانبهار بإنسانية حفيدة من أبادوا شعبًا كاملاً، لأنه فقط عجز عن التَّأقلم مع قِيّم اللُّصوص المنفيين من بريطانيا،.. وتطاردهم عقدة تبييض الصفحة اتجاه الإنسان، بما يمسح جروح الوحشيَّة…، كما كرَّهني الملعون “ريتشارد بتلر” قائد “الأنسكوم”، فريق المفتشين في العراق في كل ما هو استرالي…
.. بقيت أراقب عن بعد الخطوات التفعيلية سيئة التركيب للتلميع الذاتي للحسناء من خلال استغلال السُّذج من الطامعين،.. الحسناء التي لا يجمعها معنا لا التَّلاقي التاريخي، ولا التَّقارب الجغرافي.
أيَّامًا بعد ذلك، أعود الى البيت في غير موعدي،.. فلم أجد الطفل ولا “الحكَّامه” مع شقيقه الرضيع..
لقد أخذهم للأسترالية، فمنها يشتري صمتَ “الحكَّامه” ومنها يزداد كيل بعير..
خرجت أبحث عن “فرقة التسوّل” الأسرية، التي أصبحت على ما يبدو رقمًا في معادل التَّحايل الوطني، لأجد سليلة ماضي الاستعلاء تحلّ عقدتها التاريخية في امتهان البشر،.. ستعود الى بلدها بصوَّرٍ من “دلعها الانساني” في افريقيا، … مظاهرة من الأطفال وأمّهاتهم من حيِّنا والأحياء المجاورة، يتدافعون ونظراتهم اتجاه بعضهم لها أظافر،.. وقد استعاروا كلهم صفة “الفقير”، في مشهد يتدلَّى من سقف الطَّمع .. و يثير القهر…
الحي فعلا تقطنه أسر لا تعرف من ملامح الدنيا إلا قفاها، فقد أدارت عنهم وجهها قبل ميلادهم، يعملون حرّاسًا.. غير أن الجشع و عقلية ” كره الزَّمكَه” دفعت بغير المحتاجين الى حضن الأسترالية بشهيَّة تحرَّرَت من غمد الكرامة والقناعة.
التصوير مستمر.. تبتسم الحسناء، تُقِّسم بعض الألعاب الصينية والملابس المستعملة والحقائب المدرسية الرخيصة…
ذاع صيتها وبدأ “فقراء” الأحياء المجاورة يُصَلُّون الفجر عند باب بيتها..، لكن ما لبثت شركة “شنكر” أن ضاعفت الحراسة، وطردت “الفقراء” الأعزاء،.. لم تعد الحسناء تخرج إلا نادرا في سيارة مظلَّلة، تدير رأسها متحاشية السيئين الظرفاء من الأطفال، .. لم يستوعب الصِّغار أن الفيلم الإنساني قد انتهى تصويره!
الفقر ليس جديدا .. هنا.. وكثيرا ما مضغناه بلذة القناعة…لكن الطّمع صار من الثوابت الوطنية .
موجبه على تعبير أهل الفيس، أن صديقا عزيزا – سيقرأ هذه الكلمات بإذن الله – طلب مني أن أدلّه بحكم التجربة، على من يسجّل لقناة غربية “تجسيدا مُمَثَّلا” عن “لبْلوح” و ختان البنات (الخفاض) و الطَّلاق،.. طبعًا سيسهم الوثائقي في تغذية المخيال الغربي بالصّور والتَّمثُّلات التي كوَّنها عنَّا.. وسيرفِّه عن ترفهِ الثقافي… وسيُسْهم كذلك في اقناعنا بواسطة أبناء جلدتنا بدونيَّتنا …لكن بمقابلٍ مالي طبعاً!.. خسأ المال.
سيدي.. إن عِرْض هذا الوطن من عِرْضي، لا أبيعه ولا أُقوِّده، وتجربتي له لا عليه… بِعْنَا ما في بطنه بالجملة، ونبيعُ يوميًّا القطرات الشحيحة المتبقية من ماء وجهه بالسَّقط، للمنظمات، والقنوات،..في كل البازارات السيئة.
تكاد تختفي الرّوح المطمئنة المروّضة على الكبرياء والأنفة.. الغنية عن الشيء لا به.. حالة شجع غير طبيعية،.. ممَّن كان يجوز في حقهم ذلك، ومن كان لا يجوز!!.
تعليق واحد