في موسم زهرة الخشخاش.. قتلى لا بواكي لهم/ الصديق أبو الحسن
صديقي حمزة حسم أمره منذ البداية فحرص كل عام على تزيين ياقة قميصه بشارة زهرة الخشخاش أو غرس دبوسها في قبعاته الغريبة. حمزة قرر منذ قدم إلى هذه الأرض من بلد مغاربي أن يتماهى مع سكانها ويفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم. اختار الاندماج “دون عقد” وأعانته روحه المرحة وطباعه السمحة على ذلك، لا يبالي بما يلقاه دون ذلك من غمز ولمز، إلا أنه لا يمثل الأكثرية. فمع حلول نوفمبر من كل عام واحتفالات ذكرى هدنة الحرب العالمية الأولى، يعتمل في أوساط مسلمي بريطانيا جدلٌ مرتبطٌ بالرّموز ومعانيها؛ جدل تختلط فيه المشاعر وتحتار فيه ألباب أبناء هذه الفئة من المجتمع البريطاني فلا يجدون الجواب الشافي ولا بوصلة مقنعة يهتدون بها.
فرصةٌ ما كان اليمين المتطرف ليخطئها رغم أن عقيدته أقرب إلى الفاشية وأنظمتها من عقيدة الجيوش التلي قاتلتها. الجماعات العنصرية تنتهز هذه “الربكة” الجماعية التي تنتاب المسلمين في كل عام فتخرجها عن سياقها وتبث في روع البريطانيين مشاهد منتقاة مفادها أن المسلمين يكرهون زهرة الخشخاش وما ترمز إليه، يدعمها في ذلك مواقف غلاة الخطباء ونشطاء مسلمين متطرفين ينتقدون حمل هذا الرّمز ويعدّونه تأييدا لحروب بريطانيا في الشرق الأوسط.
خرافةٌ أخرى تنضاف إلى الخرافات التي يروجها اليمين العنصري وإعلام رسمي يعرض بإصرار غريب عن التذكير بأعداد المسلمين الذين اقتيدوا إلى حروب بريطانيا وقتلوا دفاعًا عنها في الحرب الكبرى. هذا عن التاريخ، أما عن واقعهم اليوم فكل عام يحرص نحو مليون مسلم على حمل شارة زهرة الخشخاش تكريمًا لذكرى ضحايا الحرب. ولا تمر مناسبة وطنية في دول أوروبا إلا والتفتت الأعناق صوب الأقليات المسلمة ترصد سلوكها بحثا عمّا يؤكد كليشيهات جاهزة منها أن “هؤلاء ليسوا منا لا يفرحون لأفراحنا ولا يحزنون لأحزاننا!” فترى القسم الأكبر من مسلمي أوروبا لا تفتر ألسنتهم عن ذكر أوطانهم الجديدة بكل خير، ولا تجد أكثر منهم ترديدًا لوفائهم لموسساتها ومبادئها بمناسبة وبدونها، كأنهم يغتسلون من خطيئة أصلية ويدفعون عنهم تهمة لا تسقط بالتقادم. أظهر مسح كان قد أجراه معهد غالوب نتائج مذهلة مفادها أن ما يقرب من 80 بالمائة من مسلمي بريطانيا يتماهون بشكل تام مع القيم البريطانية ويثقون في مؤسساتها مع احتفاظهم بقيمهم الدينية ولا يجدون حرجًا في ذلك، بينما تقل هذه النسبة إلى نحو النصف لدى بقية مكونات المجتمع البريطاني بمن فيهم السكان الأصليين.
ذاكرة انتقائية
تدرك السلطات البريطانية حاليًا الخطأ الفادح الذي اقترفته حين أهملت ذكر أبطال بذلوا أرواحهم للإمبراطورية التي كانت تحكم أوطانهم آنذاك، وأثر ذلك على إحساس جانب من أبناء الجاليات المسلمة بالتيه والغربة. فأنشأت لهذا الغرض هيئات متخصصة مثل مركز “بريتش فيوتشر” للأبحاث في قضايا الهجرة والتنوع العرقي، والذي يقدّر عدد المسلمين الذين حاربوا إلى جانب بريطانيا في الحرب العالمية الأولى بنحو أربعمائة ألف. أكثر من ستين ألفًا منهم قتلوا في جبهاتها الأكثر شراسة مثل معركة السوم في شمال فرنسا ومعارك فلاندرز في بلجيكا حيث أبلوا بلاء حسنا في مواجهة الألمان وساهم تفانيهم في تجنب وقوع ميناءي بولون وكالي.
ومع أن دماءهم سالت في ميادين تلك المعارك وامتزجت بدماء الأوروبيين في الخنادق، إلا أن أسماءهم لم تجد مكانًا لائقًا في سجل البطولات إلى جانب رفقاء السلاح من البيض، وكأن ملامحهم طمرت مع أجسادهم فلا تكاد تراها على التماثيل واللوحات التذكارية والأفلام الدرامية والوثائقية إلا قليلا.
أظهر استطلاع للرأي أجراه “بريتش فيوتشر” مؤخرًا أن 22 بالمائة فقط من البريطانيين يعلمون بمشاركة الجنود المسلمين في الحرب، وأن اثنين في المائة فقط يدركون حجم التضحيات التي بذلوها. يقول الشاعر والكاتب المسرحي البريطاني أويس محمد، أحد منسقي مشروع رائد لتوعية أطفال بريطانيا بدور الجنود المسلمين في تلك الحرب، إن عدد الجنود الذين نقلوا من الهند للمشاركة في الحرب يقدر بنحو مليون ونصف المليون رجل، أي “أكثر من عديد جيوش بقية المستعمرات البريطانية مجتمعة”. ويذكّر أنهم قاتلوا في خنادق الجبهات الغربية عندما كان الألمان يتقدمون بلا هوادة، وكان لدورهم أهمية بالغة في شد أزر القوات البريطانية.
ويؤكد على ضرورة الإقرار لهم بالفضل الكبير أخذا بالاعتبار أنهم انخرطوا دون إعداد في القتال إلى جانب الجنود البريطانيين في بيئة غريبة عنهم تمامًا حيث نقلوا على عجل إلى جغرافيا أوروبية وعرة ووزعوا على الجبهات ببذلاتهم الاستوائية الخفيفة في طقس ممطر وشديد البرودة بينما ينحدر معظمهم من مناطق دافئة.. ولم يسبق لمعظمهم أن شاهد طائرات ولا ناقلات مدرعة ولا أسلحة رشاشة.
“كان الأمر أقرب إلى مجزرة منه إلى معركة حيث أبيدت سريتان من مقاتلي البلوش الذين تحملوا العبء الأكبر في صدّ تقدم الألمان السريع في حقول الفلاندرز”، يقول صاحب المشروع، لا لتجديد المآثم على حرب لم يسلم من شرارها أحد، ولكن للتأكيد على ضرورة عدم إغفال مشاركة المسلمين في تلك الحرب لأن الذكرى ـ كما يقول ـ “مهمة للمعاصرين وقوة للخير لأنها تقرب بين الناس وتمنحهم شعور الانتماء لهذه البلاد.. إنها إقرار للشباب (المسلم) بنصيب في الفضل بعد أن كان لسلفهم سهم في الكفاح.”
هذا الوضع لا يخص الجالية الإسلامية فحسب، بل شعور الخذلان ذاته يحس به أحفاد جنود الإمبراطورية المنحدرين من النيبال وإفريقيا والكارايبي ومختلف الإثنيات غير الأوروبية ممن ضمهم التاج البريطاني. الكاتب والصحفي كيفن ماكسويل، الذي خدم سابقاً في شرطة مكافحة الإرهاب، لم يخف أنه يشعر مثل أغلب بني جلدته غريبًا في احتفالات نهاية الحرب العالمية الأولى ومراسمها التي تستعيد فيها أوروبا نقاءها العرقي وتتوارى فيها الألوان والأجناس. ماكسويل أثار مؤخرًا جدلا كبيرًا عندما أعرب صراحة عن شعوره بـ “عدم الارتياح” ليس لكونه لا يدعم الاحتفال بذكرى النصر ولكن لأنه لا يجد لنفسه فيها مكانًا لكونه ليس من البيض. يوضّح كاتب الإندبندنت المثير للجدل أن جماعات مثل “بريطانيا أولا” هي المسؤولة عن هذا الوضع “بسبب سلوكاتها الغبية التي تشعر كثيرًا من البريطانيين السود والآسيويين والأقليات الإثنية بأنهم مطرودون من احتفالات ذلك اليوم”، إلا أنه يتساءل ما إذا كان الأمر أعمق من ذلك، ويعدّد المناسبات التي حاول فيها أبناء تلك الفئات الخروج من هذا المأزرق دون جدوى.
“حجاب الخشخاش” والهندسة الاجتماعية
قبل أربعة أعوام، صممت طالبة في كلية لندن لتصميم الأزياء، تُدعى تابيندا كوثر إسحق، أغطية للرأس مزينة بزهور الخشخاش بهدف تشجيع النساء المسلمات على المشاركة في إحياء ذكرى مرور مائة عام على منح وسام فكتوريا للشجاعة لـ خداداد خان، أول جندي مسلم يتم توشيحه بهذا الوسام الرفيع لقاء بلائه الحسن في معركة إيبر الأولى.
سجلات الحرب تروي أن خداداد خان وفرقته من المقاتلين البلوش المعروفين بشدة بأسهم أوكلت إليهم مهمة مستحيلة تمثلت في التصدي لفرقة مدرعات ألمانية، فصمد ومن معه رغم التفوق الكبير للألمان وثبتوا في مواقعهم حتى قتلوا عن آخرهم مما وفر الغطاء اللازم لوصول تعزيزات وحماية منفذين بحريين حيويين لإمدادات قوات التحالف. وتقول رواية إن خداداد خان أصيب إصابة بالغة وزحف تحت جنح الظلام إلى أقرب موقع لقوات التحالف.. ولا يهم إن كانت خاتمة القصة واقعية أم لا ولكن بريطانيا معنية باقتطاع موقع لجنود الإمبراطورية المسلمين في سجل أمجادها وتوفير منفذ مشرف لمواطنيها من المسلمين حاليًا لمشاركة بقية الطوائف احتفالاتهم بتاريخ وطنهم الجديد؛ وهي مقاربة حكيمة للهندسة الاجتماعية ومرونة محمودة في التعامل مع سيناريوهات الماضي، لا يعارضها إلا جهلاء اليمين العنصري البليد ولا ترفضها إلا أقلية جاحدة من الجاليات المسلمة.
وبالعودة إلى “حجاب الخشخاش” فقد لقيت الفكرة رواجًا فاق كل التوقعات لدى النساء المحجبات، إذ نفذ كل مخزون الجمعية الإسلامية في بريطانيا التي دعمت المشروع خلال أيام معدودة، فأوكلت تنفيذها إلى رابطة قدماء المحاربين التي تشرف على مشاريع “نداء زهرة الخشخاش” الخيرية.
ولا عجب فأبناء كل مكونات المجتمع البريطانيين يدركون ما يمثله رمز زهرة الخشخاش من قيم منذ سنوات الدراسة الأولى، ولكل منهم يرجع خيار حملها أم لا، كل بحسب ما يراه أقرب إلى نفسه ولا يتعلق الأمر بقرار جماعي أو أفكار يتقاسمها المسلمون مطلقًأ.
وقد يكون المانع أبسط من ذلك بكثير ومرده إلى اعتبارات استيتيقية مثلا، أو تباين في معايير المقبول والمذموم في الهندام والمظهر عمومًا. علينا ألا ننسى أن الجيل الأول من المهاجرين المسلمين قدموا من مجتمعات تنفر من الرموز والمسجمات وقد تعتبر العناية بها تقديسا غير مُريح لشئ مادي؛ ناهيك عن مفاهيم الرجولة والاتزان التي كانت لديهم ـ ولا زالت إلى حد بعيد ـ تعد ارتداء الحلي أو الألوان الفاقعة من “خوارم المروءة”، فما بالك بتقلد أوشحة ونياشين وأوسمة براقة ومزركشة فوق الياقات وعلى الصدور والسعي بها بها أمام الملأ.
إن حمل أي رمز من الرموز ينبغي ألا يكون مبعث فخر ببطولات لم يشارك فيها أبناء هذا الجيل، ولا أن يكون تركه انعكاسًا لإحساس بالعار على مآس لا يد لنا فيها كذلك.. وإن كان للذكرى والعرفان فمن كل بقدر ما تعنيه له ذكرى الحروب. ومع الأغلبية ترى في التذكارات والنصب عربون وفاء لمن ماتوا دفاعًا عن الحرية وصونا لها من الاستبداد والطغيان، لا تعدم أن تجد من الأوروبيين أنفسهم من لا يرون فيها إلا الشؤم كل الشؤم، ولا يرجون خيرًا من إحيائها ويحذرون من نكء جروح لم تندمل وإثارة نعرات القوميات الأوروبية الخامدة؛ وإن كان لا بد من احتفال فليكن بتجديد العهد على عدم العود إلى الحرب وما يقرّب إليها من قول وعمل، والسير نحو ما يؤلف قلوب الناس والابتعاد عمّا يثير الفرقة والعصبية.
نشر بالاتفاق مع الكاتب
تعليق واحد