فيصل دراج : الناقد الروائي الكبير و مثقف الاغتراب المزدوج .
بصم المفكر الكبير فيصل دراج الساحة الفكرية والثقافية بكتابات تحليلية كثيرة وغزيرة تناولت مجالات مختلفة يجمع بينها الالتزام الثقافي والفكري بقضايا العقلانية والتقدم والحرية ونشدان النماء والتطور والتقدم لمجتمعاتنا الرازحة تحت نير الاستعباد و التخلف والاستبداد ، فالدكتور فيصل دراج من نخبة المفكرين المتنورين الذين بذلوا عمرهم و جهدهم من اجل استقلالية المفكر والتزامه بقضايا الحرية والديموقراطية في زمن صعب ان تجد مثقفا ومفكرا يقول ما يفكر به بدون وجل ولا دوران. عاش المفكر الفلسطيني فيصل دراج مغتربا مبكرا عن وطنه بفعل الاحتلال فانتقل مكرها الى لبنان حيث اشتغل في الفكر والاعلام واشرف على مجلة شؤون فلسطينية وعمل الى جانب الفلسطيني المرموق محمود درويش ، وهذه الفترة البيروتية اثرت فيه التاثير الكبير حيث كانت لبنان في هذه المرحلة تعيش فورة وثورة فكرية وثقافية متميزة خصوصا وانه التقى مع رعيل من المفكرين اليساريين الذين استفادوا من وجود هامش من الحرية المتوفر بلبنان في غياب دولة مؤسساتية قامعة ، فنسج فيصل دراج علاقات وصداقات متينة مع المفكرين الكبار امثال حسين مروة الذي تأثر فيصل دراج بتواضعه و حبه للخير وتفانيه في خدمة الفكر المستنير، كما تعرف على المفكر اللبناني الماركسي مهدي عامل الذي تساجل معه في عدة قضايا فكرية وسياسية وخصوصا نقده لكتابه بحث في اسباب الحرب الاهلية اللبنانية كما تعرف على يمنى العيد و محمد دكروب الذي كان المسؤول عن مجلة الطريق البيروتية الذائعة الصيت وغيرهم من رواد الكلمة التي يمكن خندقتهم في خانة اليسار الفكري والثقافي . في خضم العلاقات الانسانية والنضالية التي نسجها في الساحة البروتية ، جاء الاجتياح الاسرائيلي للبنان سنة 1982 ليجبر ويرغم المفكر فيصل دراج على ترك بيروت ويغترب اغتراب متجدد، حيث غادرها متوجها الى دمشق التي احتضنته وتعلم فيها ودرس في جامعاتها الى ان اضطر الى الاغتراب مرة اخرى والرحيل مضطرا بعد الربيع السوري وما تلاه من احداث تراجيدية بعد 2011 .
حصل الدكتور فيصل دراج على درجة الدكتوراة في الفلسفة من احدى الجامعات الفرنسية وتحديدا من جامعة تولوز سنة 1974 وتقدم باطروحة حول الاغتراب والتمزق الهوياتي الذي عانى منه المفكر طيلة حياته كفلسطيني حيث عانى من ويلات التهجير والنفي القسري واجبر على مغادرته قريته الفلسطينية وهو في سن الخامسة . قام المفكر الفلسطيني فيصل دراج بعدة مراجعات نقدية للفكر لليسار العربي الذي اعتبره حركة شعبوية اكثر منه تيار يحمل مشروع مجتمعي تغييري . كما انه انتقد ادوار المثقفين في مجتمعاتنا ووصفهم بالمهزومين والمستكينين والمفصولين عن هموم واقعهم ، في عدة مواقع من كتاباته الكثيرة والغزيرة ، كما انه لم يعد يستسيغ تسمية المفكرين بهذا الوصف باعتبار ان المثقفين الملتزمين نادرو الوجود على حد قوله ، حيث الاحرى تسمية المثقفين بممتهني الكتابة اوبالكتاب ولا يحبذ استعمال كلمة المثقف التي لها دلالات قوية من حيث الالتزام والحمولة الاخلاقية العالية. اتجه الفيلسوف دراج نحو الرواية والنقد الروائي معتبرا الرواية هي الفضاء الثقافي الذي يسمح بقول الحقيقة عن الاوضاع المعاشة او المعيشة في قالب روائي جمالي اي انها الجنس الادبي الذي يستطيع الانفلات النسبي من رقابة السلطات الدينية والسياسية ، لذلك يتجه المفكر دراج الى الثناء على اعمال روائية معتبرا اياها اعمالا ادبية حداثية استطاعت فضح الواقع المشخص بطريقة سليمة وامنينة مثل روايات جمال الغيطاني[1] : “يدخل جمال غيطاني في ‘الزيني بركات’ الى جوهر الراهن العربي ،فيكشف قتامه في شكل ادبي اصيل ،ويخبر عن معناه في مقاربة روائية رائدة .يهاجر الراوي الى الماضي ويكتب بلغة حقيقة الماضي ، او يهاجر الى الماضي كي يجد فيه المساحة الضرورية لكتابة الحاضر، لنقل انها هجرة ناقصة او رحيل واش فرضهما منطق الواقع والكتابة” و يشيد باعمال نجيب محفوظ خاصة روايته اولاد حارتنا التي استطاعت ان تحرك البرك الاسنة داخل الفكر الديني وان تسمح بتساؤلات في دائرة المقدس ورواية ثرثرة فوق النيل التي قال عنها فيصل دراج [2] :”نموذج الكتابة العضوية التي تعيش تاريخها، وتبتعد عن هذا التاريخ وتلتقي به ، كي تقرأ فيه شكل النهاية قبل قدومها، وتكتب فيه ظلام المستقبل الذي ينعقد في ارجاء الحاضر. ومن اجل بناء المستقبل في الحاضر ، يركن الراوي الى فنه،وينتج المعادل الفني للحاضر ،ويكتب رواية بلا نهاية ،لان التاريخ سيكتب قتام النهاية عوضا عن الراوي.” وله تقدير كبير لطه حسين ومحاولاته التجديدية في سبيل بناء الفكر التنويري وله تقدير معتبر لجبرا ابراهيم جبرا ورواياته ذات النفس التجديدي كما اشاد بروايات ادوارد الخراط وغيرهم من رواد الرواية الذين سعوا الى تطوير المنحى الروائي التجديدي في سبيل بناء حداثة فعلية . رغم ان فيصل دراج يقر بوجود روائيين جادين و ممتازين الا انه لا يقر بوجود ظاهرة روائية جادة في الثقافة العربية اي ان المحاولات التجديدية التحديثية داخل الرواية هي اجتهادات فردية معزولة لا تعبر عن وجود اتجاه روائي تجديدي داخل المجتمع وكل روادها من خريجي الغرب والمتشبعين بثقافته .
في سبيل الختم :
اثرى المفكر الفلسطيني فيصل دراج الخزانة العربية بكتابات وترجمات قيمة متأثرا بكتابات الغربيين المرموقين كبول فاليري و جورج لوكاتش وتولتستوي كذلك كما ان مقالاته في المجلة الادبية الرائعة الكرمل التي كان يديرها الشاعر الفلسطيني محمود درويش كانت شاهدة على موسوعية الرجل وعمق فكره و شغفه بالبحث التاريخي والفلسفي والانساني وعندما نتحدث عن كتابات فيصل دراج فلا بد ان نذكر كتبه التالية : ذاكرة المغلوبين، دلالات العلاقة الروائية، الرواية وتأويل التاريخ، نظرية الرواية والرواية العربيّة، الحداثة المتقهقرة. بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينيّة. ويدعو الدكتور فيصل دراج في معظم كتاباته الى الانعتاق من اسر الماضي والانبهار به و التخلص من اليقينات والمسلمات والايمانيات الارثدوكسية التي حكمت الفكر الماركسي والقومي والديني… و دعا الى ضرورة البحث عن افق انساني رحب يؤمن بالعقلانية والتسامح والنسبية لذلك دعا الى تدشين ما بدأه طه حسين في كتابه في مستقبل الثقافة في مصر خصوصا من دعوته ضرورة الجمع بين التعليم والديموقراطية في افق خلق مجتمع المعرفة الذي يقطع مع الاستبداد بكل انواعه واشكاله وتمظهراته ولنتعرف اكثر على نبل الدكتور فيصل دراج واحترامه لذكرى اصدقائه ما قاله عن الشهيد مهدي عامل على صفحات احدى اعداد الطريق[3]: ” في زيارة الى دمشق ، وبصحبة رفيق العمر والاحلام محمد دكروب ، دخل مهدي الى مطعم ،وكان بيده “فلة” يحملها بحرص شديد ، ويشملها بين الفينة والاخرى قائلا “مااجمل رائحة هذه الفلة” ويعرض جمالها ،مفتونا على الاخرين .قال بلهجة حاسمة ومغتبطة :” هذه الفلة لازم ما تذبل “
. نقول مع مهدي عامل و فيصل دراج نحن كذلك ان هذا النموذج من المثقفين لازم كتاباتهم وافكارهم ان تنقل الى الاجيال المقبلة وان لا تذبل مع صيحات الظلام الطويل الذي يغشى الثقافة والفكر الانساني المتنور امام انتشار الارهاب والتطرف والاستبداد والاستقواء الراسمالي الاستهلاكي على ثقافة وفكر الشعوب.
- انغير بوبكر-
المنسق الوطني للعصبة الامازيغية لحقوق الانسان بالمغرب
باحث في قضايا الديموقراطية والتعدد الثقافي وحقوق الانسان
[1] مجلة الكرمل العدد الاول شتاء 1981 ص134
[2] مجلة الكرمل العدد الاول شتاء 1981 ص131
[3] مجلة الطريق العدد الثاني السنة التاسعة والخمسون سنة 2000 ص 41