المستعمرُ وتناقضاتُنا.. تنوعٌ يجب قبولُه
اعتمد الناس في هذه البلاد، مطلعَ القرن الماضي، خيارات وأساليب متعددة للتعاطي مع الوافد الاستعماري المستجد عليهم، وهو تعدد بقدرما مثّل قبولا للتنوع والاختلاف كفعلي إثراء وإغناء، فقد كان انعكاساً لحالة افتقار البلاد إلى سلطة مركزية أو مركز موحد لصناعة القرار فيها. والذين اختاروا المقاومة الثقافية للغازي الفرنسي، ومقاطعته ثقافياً بشكل كامل، وأصدروا الفتاوى المؤصلة في الدعوة إليها ودبّجوا القصائد العصماء في الحث عليها.. كانوا ينظرون بعين الخوف والإشفاق على الهوية والعقيدة الدينية، دون أخذ في الاعتبار لمتغيرات الواقع الجديد وما قد يفتح عليه من آفاق تغير حياتهم، مع صون الدين والعقيدة.. وبالتأكيد فإن خيار المقاطعة والانكفاء الذاتي ذاك يصفه اليوم كثيرون في لغتنا الحالية بـ«التزمت» أو «التشدد» أو «التعصب الأعمى».
وبالمقابل، فإن الذين تعاملوا ثقافياً مع المستعمر الفرنسي عبر إلحاق أطفالهم بمدارسه، تم النظر إلى خيارهم في المعسكر المقاطع على أنه تفريط في دين الجيل الصاعد وتضييع لعقيدته.. لكنهم بالنسبة للكثيرين منا حالياً إنما تصرفوا التصرف الصحيح والمناسب، لامتلاكهم البصيرة والحصافة والقدرة على استشراف المستقبل.
والذين هادنوا المستعر ووقّعوا معه اتفاقيات صلح سمحت له بدخول البلاد سلماً، قد يراهم بعضنا اليوم عملاء للغازي الأجنبي، تخلّوا عن الأرض والعرض ورضوا بالدخول تحت حماية المحتل.. والواقع أنهم كانوا يرون ما لا يراه الواحد منا حالياً وهو جالس على الكرسي أمام حاسوبه في غرفة مكيفة:
-الفجوة الهائلة في ميزان القوة المادية لصالح الفرنسيين، لاسيما أن الزحف الاستعماري الأوروبي على بلاد العالم غير الغربي، شكّل ظاهرة قاهرة لا مهرب منها ولا استثناء.
-أربعة عقود من مقارعة الفرنسيين على الضفة الأخرى للنهر السنغالي، كانت كافية لإنهاك الطرف الموريتاني وتعميق اختلالاته الداخلية.
-النزاعات داخل البيوتات الأميرية، والتي سمحت للفرنسيين باختراق هذه البيوتات وتغذية خلافاتها الداخلية.
عجز الإمارات المختلفة عن حماية أراضي مجالها الأميري، إذ تعرضت مناطقها منذ عشرينيات القرن التاسع عشر لغارات قوضت الأمن وأشاعت حالة من الفوضى، لم تستطع هذه الإمارات إنهاءها.
أما الذين وقفوا في مواجهة الزحف الاستعماري الفرنسي وسعوا لوقفه والتصدي له كوافد محتل (وكافر)، فهناك اليوم من يعتبر أنهم كانوا حالمين أو طامعين في ما لا يصح، بل صعاليك انتحاريين امتزجت الحميّة القبليةُ لدى بعضهم بالغيرة الدينية لدى بعضهم الآخر.. لاسيما أنهم كانو يواجهون قوة جبارة بالقياس إلى وسائلهم المحدودة، ودون قيادة تقودهم ولا نظام ينتظمهم! بيد أن التئام مجاميع من المقاومين بحد ذاته كان دليلا على وجود نظام ينتظمهم وقيادة تقودهم، ولو لم تتشخص في أحد بعينه. أما الفجوة في ميزان القوة فكانت تعوضها إرادة القتال وروح البسالة والتضحية، وقد شهد الفرنسيون أنفسهم بذلك.
وتبقى كلها خيارات وإكراهات واجتهادات، أملتها مرحلة لم نعشها ولم نجرب تحدياتها ولم نكن جزءاً منها.. لكن أحداً من الذين عاشوها وخاضوا تفاصيلها، لم يخوّن الآخر ولم يكفّره، بل تعايشوا جميعاً مع تبايناتهم وتقبلوها بسكينة وثبات.
لذلك نجد أن الذين قاطعوا المستعمر ثقافياً، جاء من أحضانهم وأصلابهم التراجمةُ والإداريون الأوائل الذين عملوا في الإدارة الاستعمارية وخدموها (كما خدموا السكانَ من أبناء بلادهم) وشكّلوا النواة الإدارية للدولة الوطنية التي نعيش في ظلها اليوم.. وأن الذين كان يفترض أن يهبُّوا لمقاتلة الاستعمار بسلاحهم في البداية، لكنهم سرعان ما هادنوه وكاتبوه، ثم التحق بهم المقاومون كمكاتبين جدد فيما بعد.. خرج من أحضانهم وأصلابهم جميعاً جنودٌ كثُر خدموا في الوحدات العسكرية للمستعمر، ليكوّنوا فيما بعد نواةَ جيشنا الوطني.
بيد أن المفارقة الأكبر أو أم المفارقات، هي أن دولة الاستقلال التي ينتقص منها البعض باعتبارها تطبيقاً لمشروع كبلاني وخرائطه -وكأن ثمة دولا في أفريقيا أو آسيا أو أميركا اللاتينية، لم يرسم حدودها ويحدد شكلَها المستعمرون الأوروبيون!- هي الدولة الموريتانية بحدودها الحالية ذاتها تقريباً، والتي يرابط على ثغورها في الجهات الأربع جنودُ جيشنا الوطني الذي يريد البعض تصويره كحالة مناقضة لدولة الاستقلال وللروح التي هندست بناءَها خلال العقدين الأولين من عمرها.
إننا، كأي شعب آخر في العالم، لنا تناقضاتنا الكثيرة جداً، في الماضي وفي الحاضر، والتي يتحتم قبولُها والتعايشُ معها وتقليلُ آثارها السلبية إلى الحد الأدني، لا تعظيمَها والعملَ على إذكائها دونما داعي لذلك، اللهم إلا إذا كان خدمةً لأجندات سياسية آنية وضيقة، شعبويةٌ وعديمة الرشد وقصيرةُ النظر.
من صفحة الاستاذ
99 تعليقات