التاريخ بين مذكرات “الصنكة”(=جيش المستعمر)، ورواية “الغزي”../ محمد اسحاق الكنتي
“هذا نوفمبر، قم وحي المدفعا واذكر جهادك والسنين الأربعا”
يمثل شهر نوفمبر بالنسبة لجيراننا شهر المقاومة الذي تحيى فيه بطولاتها وسط إجماع وطني لا ينخرم بمئات آلاف “الحركي”. أما عندنا فهو مناسبة يغتنمها البعض للدفاع المستميت عن “تاريخ” الحقبة الاستعمارية كما رسخته “مذكرات الصنكه وتقاريرها”، وهي مفارقة عجيبة! فلم يذكر التاريخ أن دولة بنت تاريخها الرسمي على مذكرات، وتقارير غزاتها!!! بل إن المتبع هو أن تكتب الدولة تاريخ الحقبة الاستعمارية انطلاقا من الرواية الوطنية التي تعتمد على رؤية الأحداث من الجهة التي كان المستعمر يطلق عليها نيرانه، ولا أعلم استثناء من هذه القاعدة. ولا أدل على ذلك من أن الدولة الأولى عندنا اتخذت من التاريخ موقفا في منتهى الطرافة… فلم تكن تستطيع تأسيس تاريخ رسمي على مذكرات وتقارير “الصنكة”، ولم ترد، أو لم يرد لها تأسيسه، مثل باقي البلدان، على رواية “الغزي”، فاتخذت من التاريخ موقفا عدائيا صريحا…
لقد كان طمس تاريخ هذا الحيز الجغرافي حاضرا في المشروع الاستعماري حين قرر كوبولاني إحياء اسم دولة رومانية قديمة ليسم به البلاد ضدا على المسميات التي عرفت بها (بلاد الملثمين، بلاد المغافرة، بلاد شنقيط). وحين قامت دولة الاستقلال ظلت وفية لذلك النهج ميالة إلى التأسيس من لا شيء وعلى لا شيء. في هذا السياق يدخل تأسيس عاصمة جديدة تدير ظهرها لموريتانيا الأعماق وتتطلع إلى ما وراء البحر. فقد كان بالإمكان اتخاذ إحدى المدن عاصمة للدولة الوليدة، كما حدث في جميع البلدان المجاورة والقصية، لكن رغبة الدولة الجديدة في التأكيد على أنه “لم يوجد شيء قبلها” دفعها إلى تأسيس “مدينة الرياح” في مفازة بين سبخة وكثيب. وعمدت إلى طمس المعالم الثقافية المرتبطة بالأرض. فوضعت الولايات في سجن الذاكرة الاستعمارية لتصبح مجرد أرقام؛ فبدل الحوض، ولعصابة، وغورغول، وتكانت، وآدرار… استخدمت أرقام باردة إمعانا في التغريب والإهانة…
وحين يتكلم البعض اليوم عن “المؤرخين الجدد” فإن المصطلح غير دقيق. فالجديد هو محاولة كتابة تاريخ رسمي على أسس صحيحة هي تلك التي تعتمدها جميع البلدان الساعية إلى ربط نشئها بقيم وطنية تثير فيه الاعتزاز بماض مجيد يحفزه إلى بناء مستقبل زاهر، انطلاقا من ثقته المطلقة في ذاته وفي وطنه. ولا يمكن تأسيس تاريخ كهذا على افتراءات الغزاة، وإنما يؤسس على الوقائع منظورا إليها من جهة أولئك الذين حملوا السلاح والقلم دفاعا عن الدين والوطن. ولا يمكن أن ينهض بها سوى “مثقفو أهل لخيام”، وليس من المستغرب أن يناهضها “مترجمو اندر” الذين يرون كل حديث في التاريخ جديدا!!!
إن وصم الدعوة إلى كتابة تاريخ المقاومة الوطنية بأنها…”… تاريخ الحروب القبلية وفرز القبائل بين عميلة للاستعمار ومقاومة له!” فيه الكثير من التجني، والتحامل على دعوة وطنية غايتها ملأ فراغ لا يمكن تجاهله في عملية بناء يراد لها أن تتم على أسس مادية ومعنوية سليمة. ولم يرد في ذهن صاحبها، والذين تبنوها، فرز ولا إدانة، وإنما نجد هذا الفرز، وتلك الإدانة في “مذكرات الصنكة وتقاريرها” التي قسمت القبائل الموريتانية إلى صديقة توصف أحيانا بصفات مشينة “متورطون معنا، ترتبط مصالهم بمصالحنا، ينقلون لنا الأخبار، يمدوننا بالرجال والجمال…”، وقبائل معادية توصم بالنهب والسلب… أما تاريخ المقاومة المنشود كتابته فيتحدث عن شعب قاوم الغزاة بكل فئاته، ويسكت عن وعي عن أولئك الذين أرغمتهم الظروف، أو ورطتهم فتاوى نظرت إلى “نازلة الاستعمار” من زاوية لها نصيب من المشروعية دون التسليم لها باحتكارها. بل إن تاريخ المقاومة يحتفي بما قدمه الذين خدموا في صفوف قوات الغزاة، من خدمات للمقاومين، تمثلت في أوجه عدة؛ تضليل العدو، تبذير الذخائر، عدم الإجهاز على الجرحى، إنذار المقاومين…
ذلك أن قضية “مثقفو أهل لخيام” هي تأسيس وعي جديد يتجاوز ما يحاول “مترجمو اندر” ترسيخه في أذهاننا من أن تاريخنا بدأ 1902، وانتكس 1978. فهذه الرؤية الاختزالية لا يمكن أن تبنى عليها الأوطان لأنها استمرار للتصور الاستعماري الذي ندعي التحرر منه 1960. فالدول المعاصرة لنا، جنوبنا وشمالنا بدأت تطورها الحديث في قطيعة مع التصورات الاستعمارية. فكان سينغور ونكروما ينظّران للشخصية الإفريقية وإن اختلفت منطلقاتهما، وفي الشمال كان الأشقاء العرب يبنون أوطانهم بخطاب قومي أو وطني، يقطع في كلا الحالين مع الاستعمار، بينما استعدنا نحن، بعد الاستقلال، تصور المستعمر لوطننا “همزة وصل” بين مستعمراته شمال وجنوب الصحراء!!!
كانت قيم “الزنوجة” تكتشف ويعاد لها الاعتبار، والحضارة العربية الإسلامية تستعيد ألقها في البلدان العربية، بينما يؤسس للفراغ عندنا!!! وكأن هذا الوطن “الربع الخالي”، أو “صحراء كلاهاري”، أو “نِفادا”، اكتشفه كوبولاني كما اكتشف كلومبس أمريكا… وكأن امبراطورية غانا لم تقم، ومملكة الوالو لم توجد، والدعوة المرابطية لم تكن، والإمارات العربية والصنهاجية مجرد أسطورة!!! لكل البلدان تاريخ مثلث الأضلاع؛ قديم، ووسيط، ومعاصر، إلا هذا الوطن الذي قدّ له “مترجمو اندر” تاريخا على مقاسهم، على مقاس همزة، يمتد في الزمن 76 سنة كاملة…ألم يأن لنا أن نتجاوز طور “الترجمة” إلى “عصر التدوين”!
حين أطلق اسم “أم التونسي” على مطار نواكشوط الدولي، تخليدا للمعركة البطولية التي كبدت فيها المقاومة المستعمر خسائر فادحة، أصدرت رئيس إحدى منظمات المجتمع المدني بيانا تستنكر فيه تخليد معركة “بين القبائل الموريتانية الموالية لفرنسا وتلك المعادية لها…” فانبرى “التراجمة الجدد” يستخدمون نفس العبارة “الحروب القبلية” في شجبهم لكتابة تاريخ وطنهم بعيدا عن “مذكرات الصنكة وتقاريرها”! لكن “مثقفو أهل لخيام” يقولون ل”مترجمو اندر” ممن يحنون إلى إحياء دور بو المقداد…”دسنه”…