أحاديث الصَّالونات .. جمال برسم الحَرق”/ الدهماء
ذهبت لصالون حلاقة، نسوي، “كوافيز”، لترتيب شعر بعض صغيرات الأسرة،..
طول الانتظار في المحل الأنيق بمراياه اللاَّمعة، يبعث على الملل والتَّأمل، وعلى فائض من اختلاس النَّظرات،.. العاملات بجلود مُرقَّطة، تصبُّغ أسود، ولطخات بيضاء متورِّدة، تشققات كالأخاديد غزت الأذرع.. مُحصّلة الاجتهاد في مغالبة فطر الله التي فطر عليها ألوانهن ،.. والمحل على جماله، يكتم النَّفس برائحة الشواء الكيميائي ..
سبقتني فتيات شَغلن مقصورات التَّزيين المُتوفّرة.. ثمَّ دقائق، ويعلو صوتُ احداهنَّ تُبشِّر مُحدِّثتها على الطَّرف الآخر من الخط، أن “الحَجَّاب” المُعيَّن، قدم من سفره، وقد حدَّدت لها موعدا معه ، وأن “اعْمايرُ ما إَقرمْشُ”!، وسردتْ لها بعض معجزاته في تزويج فتيات تعرفهن.. كانت تتكلَّم على راحتها كما لو كانت في مكان مهجور، أو كان الموعد مع طبيب أطفال!.
طُلِيَّتْ احداهُنَّ بخليط أصفر مُقْرف، فبدتْ كدجاجة مُتبَّلة، في حين كانت مُزيّنة أخرى مُنهمكة بحرق شعر الثانية للتَّمليس، ظهرتْ بقع من الصَّلَع على فروة رأس الفتاة، وكانت بشرتها مَيِّة كلون ديكٍ مُجمَّد،…
لَحِقَتْ بنا شابَّة أخرى،.. وَضَعَها الانتظار على كُرسيٍّ بجانبي.. تحيَّة مُقتضبة، ثمَّ قالت:«أفْ، الاستهلاك المُفْرط لهذه المُسَرطنات يستنزِف أرواح النساء» ،.. قلتُ مُسايرة لها:« فِعْلاً.. يُنفقْنَ على القبح المُستديم، والتَّعجيل بالمنيَّة».. اندفعتْ الفتاة القادمة في اثبات ما قالت بعِلْميَّة المُتمكِّنة،… طالبةٌ في كُلِّيّة الطِّب.
لحظات، وتنبري لها إحداهن، بعد انْ امتطتْ لسانًا من جلد البقر، اكتسبَ فوقَ الجهل وقاحةً نوعية، فلم تُوفِّر شتيمة في حقِّ المُتعلِّمات إلا وقذفتها في زهوِ الواثق من علمه: « بائرات، بلا جاذبية، ولا يملكن غير المواعظ والنقد، ووو»،.. ومع الاسترسال امَّحى الحياء حتى آخر حرف.
انحسرتُ منزوية في حدودِ وقاري، وأنا أتابع بِفضول حوارًا بين شابتين من وعيَيْنِ مُخْتلفين، إحداهن طالبة طبٍّ، والثانية طالبة حلال “بحَجَّاب”..، لم أشارك..، فقد هَزَمْتُ منذُ زمنٍ بعيد ذلك الإحساس القاهِر للمتعلمة بالوصاية على وَعْيِ غير المُتعلمة، التي تعيش في سعادةٍ على سَجيَّة جهلها،.. ومع أنِّي أتفهَّم تلظِّي طالبة الطّب.. كنتُ أهاب تَلَمُّظ طالبة الحلال.. فكلّ كومة جهلٍ تُشبِه صاحبتها.
لماذا تُحشَر المُتعلِّمة في الزَّاوية المضادة، كلما تعلق الأمر بالجمال والدَّلال؟ ويكون عِلْمها لصيقا ببعض صُوَّر الدُّونية الأنثوية من العنوسة للسَّماجة؟!!
تزيَّنتْ الشَّابات،.. ابتلعتْ المساحيق والألوان ملامِحهُن الأصْلية التِّي كُنَّ عليها قبل دقائق، فَصِرْنَ كبناية مُزركشة، متشابهة الشِّقق حدّ التطابق، وكأن البناية أُقيمَتْ على أرضٍ تحْمِل آثار قصف كيميائي محظور.. نفس الحواجب المُصْطنعة، نفس الشِّفاه الصَّارخة،.. لون الطّلاء المُخْفي للعيوب، الشّعر المعالج بالمحاليل المُدمِّرة، كخلايا السّرطان…، المُحَصِّلة بعد كل هذا العذاب، مُنتَجٌ بشري مُتماثل الملامح، يصادفنا بالعشرات في الطّرقات بما يُشْبه بضاعةَ الكَمِّ المُوجَّهة لتلبية الطَّلب الواسع.
حضرتُ وصديقتي حفل تأبين الفقيدة “ديمي بنت آب” رحمها الله، في “دار الشباب”، وقد ضمَّ الحفل عشرات من سيِّدات المجتمع الرَّاقي، نَظَمَ عِقْدهنَّ الرَّحيل المُفجع،.. بالكَادِ نجحنا في تمييز بعضهن رغم شُهرتهِنَّ ومعرفتنا بهن ، .. فقد سقطتْ عنهُنَّ آنئذٍ بهرجة المساحيق تحت ثقل الرَّحيل المُفاجئ، وضرورات المأتم، فانكشفتْ أطلال وُجوهٍ غريبة، تُحدِّث عن تاريخٍ من الهَدْمِ الكيميائي، اكْساهُنَّ كهولة بائسة،.. كُنَّ كمجوهراتٍ مُزيَّفةٍ كُشِفَ طلاؤها.. استغفر الله لي ولهن.
على أية حال، أنا من جيل الصِّناعة الميكانيكية، الذي روعيَّ في انتاجه الجودة لا الجمال،..ولا أصلح للتبشير في عالم التجميل،.. لكن العودة للجمال الفطري البسيط أصبحت اتجاهًا عالميًّا، ومُمارسة مُتحضرة، وأنيقة،.. وخصوصًا صحِّية…فالجمال في البساطة والتناسق،..
وليُسَاهِمَ آدم في تغيير الصّورة ،.. سيدي، حوّاء تَهْجَعُ في محرقةٍ، تطارد صورةً نمطيةً مُتوهَّمَةً في مخيلتكَ،.. “طفله صَفرَه،.. طفله بيظه!”، وتعزفُ “الطفلة المُبرْقشة” لحن الضَّرر بنفسها على أكثر من وترٍ، لتُجسِّد الصّورة في الواقع، ولَوْ .. بجسد مَشوي مُنقَّط!
أهو حبٌّ قهري لامتلاك الجمال لوهم الكمال؟
أهي نرجسية، اضطراب مازوشي؟… حتمًا للتَّخلف يد.
تعليق واحد