مدينة “اندر” ذات التاريخ الحافل / محمد محفوظ أحمد
— مدينة “اندر” أو Saint-Louis كما سماها الفرنسيس، هي مدينة مسجلة في التراث الإنساني للأمم المتحدة. وهي ذات تاريخ حافل؛ حيث كانت مرفأ يصدر منه النصارى الأوروبيون مَن يسبُون من البشر الأفارقة عبيدا يشحنونهم في الفلك تجارةً، مع ما ينهبون من الذهب والبضائع… الخ. ثم جعل الفرنسيون من هذه المدينة عاصمة “مشتركة” لدول غرب إفريقيا التي يحتلونها. لكن “اندر” كانت من الناحية الديمغرافية والجغرافية والتاريخية مدينة موريتانية أيضا؛ شأنها كشأن المدن النهرية التي يسكنها كافة أعراق الطيف الموريتاني المتنوع. فمن الناحية التاريخية خضعت المدينة لسلطة الإمارة التروزية واختلطت بها اجتماعيا وسياسيا. ومن الناحية الجغرافية جعل موقع المدينة على مصب النهر الصنهاجي في المحيط ـ في عصرها الحديث ـ مركزا مختلطا يسيطر الموريتانيون على جانبه الغربي الشمالي والوسطي، الذي كان سكان المدينة في الأربعينيات وما بعدها يطلقون عليه “موريتان”، و”اندر لبيظ”… ولا زال “الاندريون” ـ إلى وقت قريب ـ يسمون الجسر الكبير بين عدوتي المدينة “صالة (جسر) محمد لحبيب”، بدلا من اسمه الرسمي (جسر فيدرب). وبعد تشكيل الإدارة الموريتانية، تحت الحكامة الفرنسية اتخذت من “اندر” عاصمة لها، بينما انتقلت الإدارة السينغالية، الخاضعة لنفس الحكامة إلى دكار. وعلى الصعيد الاجتماعي والثقافي، حدث ولا حرج عن الحضور الموريتاني في المدينة التي أصبحت منذ ذلك التاريخ مثابة للعلماء ولأدباء والأمراء والفنانين “البظان”، بالإضافة إلى التجار من كل نوع. وتكونت هناك روابط و”أعصر” ونبلاء من الموريتانيين… أشهرها “المهاجريه” و”أولاد اندر” عموما. وكان من أسباب ذلك وكثافته وقوة إشعاعه، اتساع رقعة الأراضي الموريتانية وانعدام المراكز الحضرية فيها وصعوبة التواصل بين أطرافها… فكانت مدينة “اندر” مركز التلاقي والتعارف والتفاعل بين أعلام النخب الموريتانية القادمين من كل النواحي. ولعل خير مثال على ذلك في الأعصر المتأخرة كان الإشعاع الأدبي والفني لصالون أسرة أهل “ابن المقداد”، التي جمعت بين رفعة الثقافة والأدب والكرم لدى الموريتانيين، والحظوة والنفوذ لدى الفرنسيين. من الناحية السياسية قيل، بعيد الاستقلال الوطني، الكثير عن المطالب الموريتانية “المشروعة” في مدينة “سانلوي” ومسألة مراجعة وترسيم الحدود بين موريتانيا والسينغال في ناحيتها… إلا أن احترام ما رسمه المستعمر من حدود، وحفظ علاقات المودة والأخوة بين الدولتين…
قد جعلت المدينة خالصة للسينغال؛ وإن كان النهر الصنهاجي، كحد طبيعي، يظل قاطعا لموريتانيا نصيبها من تلك المدينة! * لكن هل احترام الحدود الموروثة وحسن الجوار… تمنع موريتانيا ايضا من أي حضور أو مشاركة رمزية في الشؤون غير السياسية؛ وخاصة الثقافية والأثرية… في تلك المدينة التي تعني لنا الكثير، أم المنع هو في قصورنا وتقصيرنا؟!
* سبب هذا الحديث وذلك التساؤل هو الحملة الحالية التي تمولها الحكومة الفرنسية لإعادة تأهيل المباني والآثار التاريخية في مدينة “اندر” وبالذات مباني ومراكز الإدارة الفرنسية القديمة في المدينة، وميناؤها الذي كانت به مراكز لبيع وشحن البشر عبيدا. ثم أصبح مركزا لتصدير البضائع والسلع القادم بعضها من موريتانيا (العلك وريش النعام والملح…).
لماذا لا تتقدم وزارة الثقافة لدى الأشقاء السينغاليين والأصدقاء الفرنسيين ليكون لها حضور ثقافي ورأي فن أو مشاركة رمزية على الأقل في إعادة صيانة وتأهيل المعالم العمرانية والتراثية والتاريخية في هذه المدينة المشتركة، التي تحتضن إرثا من تاريخنا ينبغي الاعتراف به وتسجيله، خاصة وأن اليونيسكو تصنفها إرثا إنسانيا عاما منذ سنة 2000…؟
أم نه في ظل كلل الديبلوماسية الموريتانية العامة، لا مجال لديبلوماسية ثقافية خاصة…؟؟!!