من هنا نبدأ.. العشرية المقدسة…
“وكائن ترى من صامت لك معجب*** زيادته أو نقصه في التكلم”
بهذا المعنى فقد انهارت بورصة الكلام في سوق السياسة خلال الأسبوعين الأخيرين، واضطربت حركة المواقف بيعا وشراء، فأفلس العديد من المضاربين… كان سهم المأمورية الأكثر تداولا، لكن بعض المضاربين، تعظيما للأرباح المتوقعة، أضاف إليه قيمة إجبارية على من يبيع ومن يشتري سموها الدستور، وبذلك تبارى السماسرة (Dealers) على اختلاف ألسنتهم (ناصح أمين، موال شفيق، ومعارض عتيد) في المضاربة فكادت السوق تنهار.. وانتهت الفقاعة ببيان… بيان، كان سقراط، في قديم الزمان قد أعلنه.. “تكلم! حتى أراك”؛ فقد رأينا الطبقة السياسية رأي العين…
اكتشف الناس، في هذا اللغط، الدستور وأهمية المحافظة على “مواده المحصنة”، دون غيرها من المواد، فقد عدلت مواد أخرى أخيرا دون أن تثير لغطا. ولم يكن الدستور، منذ نشأة الجمهورية يثير هذا الاهتمام الواسع لدى الطبقة السياسية؛ فقد عدل في الجمهورية الأولى في ظرف أسبوع لفرض الحزب الواحد بتواطؤ من المؤسستين التشريعية والقضائية، ولم يعترض أحد من “الناصحين” والمعارضين على ذلك حينها؛ فقد كانوا في السلطة أطال الله بقاءهم!!! ولم نسمع أن أحدا من معارضتنا والناصحين طلب استشارة من المجلس الدستوري حول مدى التزام أحد القوانين التي تصدر تباعا، بالدستور! لكنهم قد يطعنون أمام المجلس الدستوري في نتائج انتخابات خسروها…
وزيادة في التهويل ربطوا أي مساس بالمواد المحصنة باضطرابات وشيكة تحرق الأخضر واليابس. وعززوا زعمهم بحشد مليونية أمام بوابة البرلمان لم يتخلف عنها من الثوار سوى 990 مناضلا، ولم يعتصم من “العدد المقدس” سوى اثنان تكفل بهما النصَب والسغب…
وإمعانا في الترغيب، بعد الترهيب، وقفوا حراسا على بوابات التاريخ يوصدونها في وجه رئيس أنقذ وطنه من الإرهاب، وشعبه من المجاعة.. قضى عشر سنين؛ “العدد المقدس”، يرمم ويبني ما شارك بعضهم في هدمه وتدميره…، ويفتحون له بابا خلفيا يؤدي إلى سرداب!!! إذا لم تكن كل إنجازات الرئيس محمد ولد عبد العزيز تؤهله عن جدارة لدخول التاريخ من أوسع بواباته، فإن عدم ترشحه ليس هو الطريق الأمثل لدخول التاريخ؛ إذ يتفاضل الناس بالفعل لا بالكف. (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا).
من بين الأصوات الصارخة والهامسة، الصادرة من موقع معلوم، والتائهة رجع صدى في الأودية، حيرى بين الإفراد والتثنية… أشفق على “الذين لا بشرى لهم اليوم”، وألتفت إلى صنو لنا؛ إذا تكلم أبان، وإذا استمع وعى… مثقف، لا هو بالمعارض النطيح، ولا بالموالي الصريح، منزلة سبقه إليها واصل فبزه في الفصاحة حين أخرج الراء من خطبه البليغة، بينما أخرجت “المأمورية” و”العشرية” خطاب “النحوي البليغ” من حصانة البرلمان إلى “ساحة الفناء” في المواقع الإلكترونية…
من السنن التي هجرها خطباؤنا اليوم.. “تقصير الخطبة وإطالة الصلاة”. ولعلهم معذورون في ذلك، إذ لا يستمع إليهم إلا في مناسبات نادرة، أما الاصغاء فقد يئسوا منه… ينبئ عنوان الخطبة الذي يبدأ بحرف توكيد وينتهي بحرف استدراك، على طريقة “المشتاق صاحب اللوعة”، أنها تصدر عن عاطفة صادقة من ناصح أمين، لذلك استمعنا إليها طلبا لفائدة مباحة، واجتنابا لشبهات يقع فيها من يحومون حول حمى المأموريات، وهم كثر هذه الأيام… ولأنها غاية في الحبك وآية في السبك، يكفي الناقض أن يأتها من القواعد، وأولها أن “التداول السلمي على السلطة” هو سبيل التقدم والرفاه، فالتاريخ يعلمنا غير ذلك.. فرئيس الوزراء الياباني شينزو آبه يحكم اليابان في ثلاث مأموريات متتالية، ولم يؤد ذلك إلى انهيار الاقتصاد الياباني، ولا إلى حرب أهلية في الجزر. ولم يعرف البريطانيون والألمان نموا اقتصاديا، وسلما اجتماعيا مثل ما عرفوه تحت حكام مكثوا في الحكم طويلا؛ فقد حكمت مارغريت تاتشر ثلاث مأموريات متتالية، ولم يسقطها سوى تآمر أعضاء حزبها الطامحين للسلطة… وحكم هيلموت كول ألمانيا أربع مأموريات متتالية (16 عشرة سنة)، وها هي آنغلا ميركل تنهي مأموريتها الثالثة… أما إيطاليا، التي لا تستمر فيها الحكومات أكثر من ستة أشهر، فهي من أكثر بلدان أوربا الغربية تخلفا… وعدلت الصين نظام حكمها ليستمر شي جي بينغ في الحكم بعد انتهاء الفترة المسموح بها…
إذن؛ على عكس ما يذهب إليه المعارضون والناصحون، وآخرون من دونهم، فإن الاستقرار هو مصدر الرفاه والنمو، وليس التداول السلمي على السلطة… تتنازل الخطبة عن القواعد المنطقية التي تتجاهل الواقع، لتركن إلى إلزام المتكلمين.. “ولنبدأ بصفحة يفترض ألا يتمارى فيها اثنان من أهل بلدنا.”، “لقد أسس، صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام الأولى وحكمها عشرة أعوام لا غير (مأموريتين بمقاييسنا اليوم [بمقاييس جاك شيراك])، وحين خير بين البقاء والرحيل، اختار الرحيل،…”، وبذلك نقلتنا الخطبة من مجال تداولي إلى آخر مستخدمة نفس الأدوات والمفاهيم، دون تبرير مقنع!!! فقد انتقلنا من السياسة الشرعية إلى “الفقه السياسي”؛ فلم يكن صلى الله عليه وسلم مجرد حاكم، ولم يحكم مأموريتين؛ فلم يصفه ربه بهذه الصفة، ولم يصف بها نفسه صلى الله عليه وسلم، فلا وجه لإطلاقها ممن يعرف له منزلته وخصوصياته… ولا مسوغ، في باب الأدب معه (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا…)، للقول بأنه “اختار الرحيل” لما تحمله الكلمة من شحنة سياسية مقيتة… أما تخييره، بأبي هو وأمي، فتلك سنة الله في رسله (الحديث)، ولا تعلق له بالمأموريات، و(لكل أجل كتاب)… ثم لماذا خص صلى الله عليه وسلم بتحديد مأموريته، بينما ملك داود، وورثه سليمان! وهل في تفسير يوسف عليه السلام لحلم العزيز (تزرعون سبع سنين…) تحديد لمأمورية يوسف (على خزائن الأرض)!!!
وصدق الصادق المصدوق..”…إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك.” فقد جعلناك حاكما ملزما بمأموريتين تخير بين البقاء “في السلطة” أو الرحيل عنها… دون أن تكمل برنامجك!!! وكأن الله لم يشهد لك (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي…)، وأشهدت أمتك (ألا هل بلغت، اللهم فاشهد)!!!
كان الصديق، الذي رحل قبل إكمال مأموريته، أفقه لكتاب الله، وأعلم بلسان العرب، حين فهم من قوله تعالى (إذا جاء نصر الله والفتح…) نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنص واضح في إكمال البرنامج النبوي، لمن أوتي فهم الصديق.
تتخذ الخطبة من هذه المأمورية الإلهية، بمقاييس جاك شيراك، مقياسا فتتساءل.. “ألا يمكن أن يكون في تلك العشرية المقدسة إشارة إلى أن عشر سنوات في القيادة تكفي لإنجاز برنامج وتسليم اللواء لآخرين؟” يعلم الخطيب قيمة “التفسير الإشاري” عند العلماء، فهو “من قبيل الوجدانيات، والوجدانيات لا تقوم على دليل ولا تستند إلى برهان،” وقد وضع له السيوطي شروطا منها “أن يكون له شاهد شرعي يؤيده”؛ فأين، في شرع الله، شاهد “العشرية المقدسة”!
ورغم ذلك، تُعرض الخلافة الراشدة على مقياس “العشرية المقدسة”، فيلاحظ أن الفاروق “حكم بالضبط عشرة أعوام (مأموريتين)، وثالث الأربعة عثمان هو وحده من تجاوز تلك العتبة، وكان ما كان بعد العشرة أعوام من الفتنة التي ما تزال تجر ذيولها إلى اليوم،…” وفي ذلك ما فيه من تحميل ذي النورين مسؤولية الفتنة، “لتجاوزه وحده” عتبة العشرية المقدسة!! وقد أجمع أهل السنة على أنه “قتل مظلوما”، وأقروه على رفضه التنازل عن الخلافة رغم تجاوزه وحده عتبة “العشرية المقدسة”…
تتعزز في الخطبة إشارة العصر النبوي، برسالة العهد الراشد.. “لكأن العهد الراشد حمل إلينا رسالة بتحديد المأموريات بسقف زمني، ما تجاوز العشرة أعوام، إلا وقد انفتحت أبواب الفتنة.” بهذا التفسير الإشاري ندرك لماذا وقعت حرب الصحراء؛ فقد تجاوز المختار رحمه الله عتبة العشرية المقدسة بثماني سنوات، ولم يجد ناصحا أمينا!!! ونفس الحال ينطبق على معاوية؛ الذي لم يجد ناصحا أمينا حتى أكمل أربع مأموريات، ثم أسقط… لكن ما بال الملوك؛ لم تشملهم الإشارة، ولم تصلهم الرسالة!!!
تضرب الخطبة مثالا برئيسين تركا المنصب قبل اكتمال العشرية المقدسة، مثل الخليفتين، فدخلا التاريخ.. “لقد استطاع اثنان من رؤسائنا السابقين أن يخرجا مخرج صدق بقرار ذاتي معلن:…”، اعلي بن محمد فال رحمه الله، وسيدي بن الشيخ عبد الله الذي “أرغم على مغادرتها بعد 15 شهرا فقط دون أن يمنح فرصة استيفاء مأموريته الأولى،…”!!!
حقيقة كل هذا الحجاج واللجاج، وإقحام التراث والعقيدة في معاركنا الصغيرة، هي أن محمد ولد عبد العزيز “لا يزال السياسي الأكثر شعبية حتى الآن”، ولا سبيل إلى منافسته في أي انتخابات، أحرى هزيمته… لذلك يتظاهر الطامحون من كافة الأطياف السياسية على منعه من خوض الانتخابات الرئاسية القادمة بكل السبل. أما التمترس بالدين، واستصراخ الأخلاق فيستبطن غالبا نصائح ميكافللي في “مطارحاته” مع أميره… وربما اقتضى الوفاء للرئيس سيدي مساعدة الذين ساعدوه على الخروج من السلطة، “بقرار ذاتي”، بنصائح كفيلة بإخراجهم منها… ف”هل هناك معارضة للرئيس أكبر من أن ننصب له هذا الفخ الخطير،…” !!!
“فلا يغرنك نصح أنت سامعه*** فربما كان بالتغرير ممتزجا”…
15 تعليقات