الأهداف التربوية والحضارية للتعليم ما قبل المدرسي في موريتانيا (1) / البكاي ولد عبد المالك
كنا قد وعدنا الجمهور الكريم بعرض مشروع إصلاحي شامل للمنظومة التعليمية في بلادنا، وقد بدأنا بالفعل في تنفيذ ذلك الوعد بمقال أول تحت عنوان محاولة لإصلاح المنظومة التعليمية الوطنية : (ج1) تعرضنا فيه لنقاط الضعف التي تنطوي عليها وتشخيص أهم المشكلات التي تعاني منها.
واليوم نبدأ بحول الله في عرض مكونات ذلك المشروع وهي على التوالي : التعليم ما قبل المدرسي،التعليم الأساسي والثانوي،التعليم العالي، التعليم الفني،التعليم الأصلي، والتعليم الخاص.
وفي الوقت الذي يسعدني أن أشارككم هذه المعلومات الفنية فإنني أطلب من جميع القراء والمتابعين فهم طبيعة هذه المقالات والهدف منها وهو نشر الوعي البيداغوجي والثقافة التربوية في أوساط الشعب وجعل الجميع يفكر معا وبصفة تفاعلية بشكل قد يساعد صناع القرار في الاهتداء إلى الوسيلة المثلى لحل جميع المشكلات : الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يتخبط فيها بلدنا منذ الاستقلال إلى الآن.
وأنا أعرف أن البعض منكم من منظور أيديولوجي ضيق ينتظر من كل إصلاح أن ينص على شيء واحد فقط، على ما يراه هو من منطلق خصوصاني ضيق وإلا أصبح غير معقول وغير مقبول وواجهه برفض غريزي جامح كأنه يعيش في جزيرة معزولة وهذه للأسف هي مشكلة الإصلاحات السابقة كلها لأنها كانت في معظم الأحيان نابعة من مزاج فردي أو جماعي لكنه في كل الأحوال لا يأخذ في الاعتبار عمومية المسألة وشموليتها.
ولهذا السبب فشلت جميع الإصلاحات السابقة التي قيم بها تحت هاجس الخصوصية الثقافية الضيقة باتجاهاتها المختلفة، سلبا وإيجابا، وكان في مقدورها ألا تعرف ذلك المصير لوتم التفكير فيها من منظور الحاضر والمستقبل ومن منظور الهوية الجامعة..
والحقيقة أن إشكالية التعليم في كل الدول لها أبعاد متعددة سياسية واجتماعية وحضارية وتنموية لا يجوز حصرها في بعد واحد منها ولا في مسألة واحدة بعينها مثل مسألة لغة التدريس ولا حتى في الموازنة بين العرض والطلب أوالكم أو النوع أو في الاستجابة لحاجات سوق العمل على أهمية هذه المسائل كلها.
وبالمثل لم تعد مشكلة التعليم عندنا تنفصل عن السياسة وصارت حقلا للتجاذبات السياسية التي أصبحت تعيق الخبراء وصناع القرار عن التوصل إلى نقطة الارتكاز الآرخميدية التي تسمح لهم بمعالجة المشكلة بمعزل عن آرائهم السياسية وتوجهاتهم وربما عن الأجندات الحزبية في حين أن الأمر يتعلق بمشكلة وطنية عامة يتأثر بها الجميع وبالتالي لا بد أن يساهم الجميع في حلها.
لذلك سعينا من مشروع الإصلاح المقترح إلى تحديد جملة من الأهداف النابعة من خيارات حضارية عامة من شأنها ترميم الذات واستعادة ما فاتها من وحدة وانسجام وإكسابها المناعة الحضارية اللازمة وتحصينها ضد كل نزعة انفصالية أو متطرفة مهما كان نوعها أو مصدرها في مناخ العولمة الثقافية التي تعمل على تفتيت الكيانات وإعادة موضعتها ضمن سياق يتنكر للتاريخ ولا يعترف بالجغرافيا.
وبعد أن قدمنا هذا المشروع في ثوبه الأكاديمي إلى الجهات الرسمية منذ بعض الوقت بناء على طلبها أو طلب من يمثلها ها نحن اليوم نشاركه مع جمهور عريض ومتنوع من خلال وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي لغرض إشاعة الفكر التربوي ونشره على أكبر نطاق ممكن في أوساط العامة والخاصة على حد سواء الأمر الذي لا يخلو من فائدة بحسب اعتقادنا.
لكن إشاعة الثقافة التربوية وجعلها في متناول الجميع ليس معناه أن نصبح بلد المليون خبير تربوي بعد أن أصبحنا بالفعل بلد المليون سياسي التعليم مسألة فنية تحتاج إلى خبراء من أهل الاختصاص وإلى صناع قرار يكونون في مستوى التحديات والرهانات الحضارية الكبرى وإلى جمهور واع بأهداف التربية ومقتضياتها ليواكب الطرفين معا في ضمان المتابعة والمؤازرة الضروريتين وعليه فإن جعل الثقافة التربوية ممارسة مفتوحة للعموم يظل مشروطا دائما وأبدا باحترام كل واحد منا لحدوده وقدراته المعرفية طالما أن الأمر يتعلق بمسألة فنية بالأساس مع حقه في مساعدة الخبراء وصناع القرار ومؤازرتهم وضمان حسن المتابعة لما يقومون به ومعرفة أين أخطأ كل منهم : في ماذا ؟ ولماذا؟
لذلك أرجو أن لا تتحول هذه السلسلة من المقالات إلى حقل للتجاذب والحروب الجانبية وألا تكون عرضة للأحكام المسبقة والنوايا المبيتة التي أفسدت وتفسد كل شي عندنا وعليه أدعو جميع المتابعين إلى الامتناع عن التعليقات غير الضرورية والاقتصار على الإفادة أو الاستفادة. وفي تقديرنا أن التسلح بثقافة تربوية سليمة وقوية يقلل بالفعل من احتمال الوقوع في أخطاء كما حدث في الإصلاحات الماضية ويكثف الضغط على صانع القرار لدفعه للإيمان بأولية التعليم وأهميته في بناء المشترك وتحقيق النهضة الشاملة.
نبدأ اليوم بالبداية وهي التعليم ما قبل المدرسي (l’enseignement préscolaire) بعد أن وضعنا في المقال السابق الأسس والمبادئ وحددنا نقاط الضعف ونقاط القوة في منظومتنا التعليمية.
التعليم ما قبل المدرسي هو المرحلة التمهيدية للتعليم الأساسي والهدف الأساسي منه هو التنشئة الاجتماعية والإعداد الحقيقي الفعال لمرحلة التعليم الأساسي:
من منظور بيداغوجي محض فإن التعليم ما قبل المدرسي هو المرحلة التمهيدية للتعليم الأساسي (الابتدائي) من خلال إكساب الأطفال مهارات القراءة والكتابة والعد..
ومن منظور حضاري عام هو تعليم الأطفال مبادئ العيش المشترك ومتطلباته.
لذلك فإن التعليم ما قبل المدرسي هو مرحلة مهمة في تكوين شخصية الطفل وغرس المبادئ التي يجب أن تتوفر في جيل المستقبل خصوصا في البلدان التي تعاني من هشاشة النسيج الاجتماعي الوطني .
ومن هنا يتعين بادئ ذي بدء خلق إطار تشريعي وتنظيمي للتعليم ما قبل المدرسي وجعله في قائمة الأولويات في الوزارة المكلفة بالتربية والتعليم.
وبما أن التعليم في الصغر كالنقش في الحجر فإن التركيز على التعليم ما قبل المدرسي هو بالفعل ضمان أكيد لنجاح المراحل التعليمية التي تليه وخاصة التعليم الأساسي ويساعد في الحد من الفشل الدراسي ونفس الأمر يقال على باقي المراحل التعليمية الأخرى يشكل نجاح كل مرحلة منها الضمان الأكيد لنجاح المرحلة التي تليها خاصة إذا عرفنا أن الكثير من التقارير تشير إلى أن مشكلة غياب التنسيق والتكامل بين المراحل التعليمية المختلفة هي من أكبر الثغرات الموجودة في سياستنا التعليمية. والمثال على ذلك هو ما حصل في بداية العالم الدراسي- الجامعي الحالي من اضطراب وفوضى بسبب زيادة نسبة الناجحين في الباكالوريا.
97 تعليقات