محاولة لإصلاح المنظومة التعليمية – التعليم ما قبل المدرسي (2)/ البكاي ولد عبد المالك
لماذا نهمل في تعليمنا أهم مرحلة في حياة الإنسان ؟
يوجد إجماع بين علماء النفس وخبراء التربية المعاصرة على أن السنوات الخمس الأولى من عمر الطفل حاسمة في حياته كلها لأن ما يحصل فيها له تأثير بالغ على نموه العقلي والمعرفي وفي نظرته إلى الكون إذ بمجرد إكمال الطفل السنة الثالثة يكون دماغه قد وصل إلى نسبة 75% من حجمه الكلي أي ثلاثة أرباع من دماغ البالغين وهذا دليل كاف على الأهمية القصوى لهذه المرحلة من حياة الإنسان.
وعلى الرغم من أن التعليم ما قبل المدرسي يعد مرحلة مستقلة قائمة بذاتها إلا أن اعتماد مراحل التعليم الأخرى عليه جعل نجاح المنظومة التعليمية بكاملها مشروطا بنجاح هذه المرحلة والتخطيط لها.
ومثلما لا يمكننا توقع منتوج جيد إذا لم تكن لدينا بذور جيدة كذلك لا يكون أي إصلاح تعليمي ذا قيمة إذا أهمل الأساس الذي يقوم عليه الصرح التعليمي بكامله وهو التعليم ما قبل المدرسي . لذلك فإننا نبدأ دراسة هذه المرحلة المهمة من التربية والتعليم باقتراح جملة من الأهداف يتعين أخذها بعين الاعتبار في سياساتنا التعليمية ومن أهمها:
□ غرس مبادئ الأخلاق الفاضلة المستمدة من تعاليم ديننا الحنيف ومبادئ الاعتدال والوسطية وفكر المساواة وقيم العدالة.
□ غرس قيم المحبة والتسامح وحب المعرفة من خلال الانفتاح على ثقافة العصر وعلومه واحترام الآخر.
□ حب الوطن وترسيخ الوعي بالهوية الوطنية الجامعة وثقافة التعايش السلمي القائم على الاحترام المتبادل.
□ تنمية القدرات النفسية والحركية وتطوير المهارات لدى الطفل وتمهيد الطريق لنمو معرفي متوازن
□ إيجاد الحلقة المفقودة بين التعليم ما قبل المدرسي والتعليم المدرسي وضمان فاعلية الصنفين معا
□ الإعداد الجيد من الناحية البيداغوجية والسلوكية للتعليم المدرسي.
ولتحقيق هذه الأهداف لا بد من:
□ تكامل الجهود بين القطاعين العام والخاص من جهة وبين القطاعات الحكومية المعنية بالموضوع بشكل مباشر وهي : القطاع المكلف بالتربية والتعليم، والقطاع المكلف بالطفولة والأسرة، والقطاع المكلف بالشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي ووكالة التضامن بالإضافة إلى دور الأسرة والمجتمع المدني لإعداد “منتوج” متكامل من جميع النواحي كل حسب اختصاصه وحسب المهام الموكلة إليه في التكوين والرعاية.
هذا الأمر يتطلب فتح المجال أمام القطاع الخاص للمساهمة بشكل مكثف في التعليم ما قبل المدرسي من خلال تشجيع المبادرات الخصوصية الرامية إلى إنشاء رياض أطفال نموذجية وخلق الظروف المؤسسية والقانونية لذلك في مقابل تقليص دوره إلى حد كبير في المرحلتين الأساسية والثانوية بقوة القانون(انظر فيما الجزء المتعلق بالتعليم الخاص ).
□ إسناد كافة المهام الإدارية والمالية والمسؤوليات الأخرى في المرحلة الأولى من التعليم ما قبل المدرسي إلى الوزارة المكلفة بالطفولة والأسرة ووكالة التضامن بالتنسيق مع القطاع الخاص والقطاعات الحكومية المعنية ويستثنى من ذلك برامج التكوين والإشراف التربوي التي تظل من صلاحيات الوزارة المكلفة بالتربية والتعليم التي تتكفل أيضا وبشكل كامل بالمرحلة الثانية من مراحل التعليم ما قبل المدرسي التي تبدأ من سن الخامسة، وهي مرحلة الإعداد الفعلي للمدرسة.
□ هذا الأمر يقتضي تعديل الأمر القانوني المنشئ للحضانات ورياض الأطفال رقم 048-2006 بحيث يتضمن التعديل إلغاء ما يسمى بـ “الحضانات الأهلية” واستبدالها برياض الأطفال العمومية (داخل المناطق ذات الأولوية التربوية) ورياض الأطفال الخصوصية خارجها واستحداث نظام تكوين للمربيات ومديرات رياض الأطفال (سنتحدث عنه في نهاية المقال).
وبناء على ما تقدم يتكون التعليم ما قبل المدرسي في الإصلاح المقترح من ثلاث سنوات مقسمة على مرحلتين :
– مرحلة أولى : يتم فيها التركيز على غرس مبادئ الأخلاق الفاضلة والمحبة والتسامح وحب الوطن وترسيخ الوعي بالهوية الوطنية الجامعة والألفة وحسن المعاشرة (la sociabilité) والانضباط، كما تهدف هذه المرحلة أيضا إلى تنمية القدرات النفسية والحركية وتطوير المهارات لدى الطفل بالإضافة إلى المضامين التي تقررها المناهج التربوية التي تناسب هذه المرحلة العمرية والأهداف المحددة لها.
تتكون المرحلة الأولى من التعليم ما قبل المدرسي من سنتين لكنها تبدأ بشكل عملي من سن الرابعة تتولى القطاعات المكلفة بالشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي والطفولة والأسرة ووكالة التضامن مسؤولية الإشراف عليها كل في مجال اختصاصه حيث تتولى وكالة التضامن والوزارة المكلفة بالطفولة والأسرة بالتنسيق مع القطاع الخاص والقطاعات العمومية المعنية تكاليف التعليم ما قبل المدرسي للأطفال المنحدرين من أسر فقيرة وكذا الموجودين في المناطق ذات الأولوية التربوية. وتتولى الوزارة المكلفة بالشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي توفير جزء من الإطار التربوي المؤهل لتعليم مبادئ القراءة والكتابة وما تيسر من القرآن الكريم والتربية الدينية ومبادئ الأخلاق الحميدة والسلوك المدني.
على مستوى المضامين يتولى القطاع المكلف بالشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي في هذه المرحلة الأولى من التعليم ما قبل المدرسي المعروفة في بعض الدول بالكتاتيب تعليم التلاميذ في هذه المرحلة الحروف العربية (قراءة وكتابة) وجزءا ولو يسيرا من القرآن (بعض السور القرآنية أو حزب واحد في أقصى تقدير) ومبادئ الأخلاق الحميدة : ويجب أن تسند هذه المهمة إلى “المحاظر” وهو ما يجعلها مسؤولة عن جزء من نظام التعليم ما قبل المدرسي مع وضع الأطر القانونية والمؤسسية لدمجها بشكل صحيح في التعليم في هذه المرحلة.
– مرحلة ثانية : مدتها سنة واحدة أيضا تبدأ من سن الخامسة وهي بالفعل مرحلة تمهيدية بكل معاني الكلمة للتعليم الابتدائي لأنها هي مرحلة الإعداد الفعلي والنهائي للدخول في المدرسة . تتولى الوزارة المكلفة بالتربية والتعليم مسؤولية الإشراف على التلاميذ في هذه السنة ويجب أن تخصص لها برامج خاصة وفصول خاصة داخل حظيرة المدرسة الابتدائية لكي يتعود النشء على أجواء المدرسة ويتكيفوا بشكل أفضل مع الحياة المدرسية. وأهمية هذه السنة هي التي دفعت بعض الدول مثل تونس إلى دمجها بالفعل في مرحلة التعليم الأساسي.
وفي هذا الصدد نشير إلى الحاجة إلى سن قانون جديد ينص على تعميم إجبارية التعليم لكي تشمل السنة الثانية من التعليم ما قبل المدرسي (ابتداء من سن الخامسة).تتولى الوزارة المكلفة بالتربية والتكوين ووكالة التضامن التكاليف المادية لهذه المرحلة (الوكالة فيما يتعلق بمن هم داخل المناطق ذات الأولوية التربوية والوزارة في من هم خارجها).
أما عن طبيعة التكوين وطبيعة التعاليم المقدمة في هذه المرحلة المهمة جدا من مراحل التعليم فيجب التركيز على ما يلي :
□ تربية الأطفال على مبادئ الأخلاق الفاضلة المستمدة من تعاليم ديننا الحنيف وعلى قيم النزاهة والصدق والاعتدال وحب الوطن.
□ ما تيسر من القرآن الكريم .
□ تعليم الأطفال في المرحلتين الأولى والثانية من التعليم ما قبل المدرسي وبصفة تصاعدية المهارات الضرورية للتواصل باللغات الوطنية المختلفة (السننكية والولفية والبلارية والحسانية) لتسهيل الاندماج بين المكونات الاجتماعية والثقافية في مراحل مبكرة وذلك بالتركيز لكل طفل على اللغات الوطنية الأخرى غير لغة الأم : التركيز على اللغة العربية لسكان الضفة والتركيز على اللغات الوطنية الأخرى (السننكية والبولارية والولفية) في المناطق الأخرى. يتولى هذه المهمة طاقم تربوي مؤهل ومدرب من المربيات اللائي تم تكوينهن خصيصا لهذا الغرض في “قسم رياض الأطفال والتعليم ما قبل المدرسي” داخل “المدارس العليا لتكوين الأساتذة” (انظر فيما بعد محور تكوين المكونين).
□ تعليم الحروف بشكل تام قراءة وكتابة في لغات التكوين (العربية والفرنسية)
□ تعليم بعض الأمور البسيطة جدا عن لغة العصر (المعلوماتية) مثل كيفية التعامل الخارجي مع الجهاز (الفتح والإغلاق بمساعدة المربين)، غرس فكرة أهمية الدور الذي تلعبه المعلوماتية في جميع مناحي الحياة العلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية وبناء الشخصية إلخ … أن يحرص المربون مثلا على تمرير فكرة مفيدة للأطفال بالقول: عندما تكبرون وتحسنون التعامل مع هذا الصندوق أو هذه اللوحة ستجدون بداخلهما حلا لجميع مشاكلكم ..
□ مراعاة الموازنة الكاملة بين هذه البرامج التي يجب أن تكون خفيفة جدا وغير مؤثرة على الاستعداد البدني والعقلي للأطفال والبرامج الأخرى المتعلقة باللعب والترفيه وخلق البنى الضرورية لذلك لأنها جزء لا يتجزأ من التربية والتكوين في هذه المرحلة.
□ هذه الأمور وغيرها تجعل من الضروري إنشاء إدارة خاصة في الوزارة المكلفة بالتربية والتعليم تسمى “إدارة التعليم ما قبل المدرسي” تشرف على البيئة المدرسية وبرامج التربية والتكوين الخاصة بالتعليم ما قبل المدرسي في الوزارة المكلفة بالتربية والتعليم وبكل ما يتعلق بالطفولة الصغرى في القطاعات الأخرى (التكوين والتقويم ، الرقابة والتفتيش ) هذه المهمة يجب أن تسحب من وزارة الطفولة والأسرة لأن هذا التكوين يجب أن يخضع لمعايير علمية وبيداغوجية صارمة لا تقل أهمية عن المعايير المطبقة في مراحل التعليم الأخرى بل هي أهم نظرا لتوقف المراحل الأخرى عليها.
□ جميع مؤسسات التعليم ما قبل المدرسي الخاصة بأصحاب الاحتياجات الخاصة يجب أن تتوفر بها الأجهزة والأدوات الخاصة بهذا النمط من التعليم وتتحمل الوزارة المكلفة بالطفولة والأسرة كافة تكاليف تجهيز المؤسسات وطواقم التأطير التربوي والفني بدعم من الوزارة المكلفة بالتربية والتعليم والقطاعات الأخرى المعنية مثل وكالة التضامن.
□ فرض الزي الموحد ضرورة لا بد من التقيد بها في هذه المرحلة وفي المراحل الموالية (الأساسية والثانوية) في القطاع العام وفي القطاع الخاص على حد سواء مع منح القطاع الخاص حرية اختيار الألوان التي تناسبه.تتولى وكالة التضامن توفير الزي المدرسي الموحد في المناطق ذات الأولوية التربوية.
أما بخصوص تكوين المربيات والطاقم التربوي في التعليم ما قبل المدرسي فلا بد أن يكون بدوره جزءا من سياسة التكوين في القطاعات التعليمية الأخرى ويقتضي ذلك:
□ أن تتضمن الأقسام العلمية التابعة لـ “المدارس العليا للأساتذة” في صيغتها الجديدة (انظر فيما بعد المحور المتعلق بذلك في هذا المشروع ) أقساما إضافية منها “قسم للمراقبين والمرشدين الاجتماعيين” لتسيير الكفالات المدرسية، وقسم للمربيات ومديرات رياض الأطفال يسمى “قسم رياض الأطفال والتعليم ما قبل المدرسي” مع اقتراح سياسة تأنيث هذا القسم la féminisation du département لاعتبارات عديدة : منها دعم التمييز الإيجابي للمرأة ومراعاة الفطرة والاستعداد الطبيعي للتنشئة الاجتماعية لدى المرأة.
□ تحديد فترة التكوين في القسمين المذكورين (قسم المراقبين والمرشدين الاجتماعيين و قسم رياض الأطفال والتعليم ما قبل المدرسي) بسنتين مع منحة دراسية تساوي (5000) ألف أوقية جديدة وراتب شهري لا يقل عن (2500) ألف أوقية جديدة بعد التخرج بالنسبة للمراقبين والمربيات، ومنحة مساوية لطلاب المدرسة وراتب شهري يساوي (3500) أوقية بالنسبة لمديرات رياض الأطفال والمرشدين الاجتماعيين.
□ تمنح الأولوية للتسجيل في هذه الأقسام (دون المرور بمسابقة) للحاصلين على شهادة الباكالوريا من المعلمين والأساتذة العقدويين (في مؤسسات التعليم العمومي) من الفئة 2 (انظر فيما بعد الفقرة المتعلقة بالمرحلة الانتقالية وحل مشكلة العقدويين) والمربيات العاملات في رياض الأطفال التابعة للوزارة المكلفة بالطفولة والأسرة.
□ الشهادة المطلوبة في المراقبين والمربيات في رياض الأطفال هي شهادة الباكالوريا، وشهادة اللصانص بالنسبة لمديرات رياض الأطفال والمرشدين الاجتماعيين لتسيير الكفالات المدرسية.
□ أن يتضمن تكوين المربيات تدريس اللغات الوطنية (السوننكية والولفية والبولارية والحسانية) بوعاء زمني كاف لاكتساب مهارة التواصل بهذه اللغات بشكل جيد.
وبما أن كل إصلاح أو تغيير للأوضاع يحتاج إلى فترة انتقالية فإننا نقترح السماح للوزارة المكلفة بالطفولة والأسرة في فترة انتقالية لا تتجاوز سنتين بمتابعة الإشراف على برامج التكوين الخاصة بالطفولة الصغرى وخاصة تكوين المربيات ومديرات رياض الأطفال في انتظار تخرج الدفعات الأولى من المربيات ومديرات رياض الأطفال من أقسام رياض الأطفال والتعليم ما قبل المدرسي من “المدارس العليا للأساتذة”.