“النجعة السياسية”.. الجمع بين القبض والسدل.. الرحالة موهوب”1″..
أسرج حصانه وغافل قمرا قوسته تسع عشرة ليلة من الإدلاج المتواصل , حجبته جوابة آ فاق من سحب لا تكاد تؤنس حتى توحش …
غادر موهوب مضارب قبيلته ويمم المجهول …عدا الحصان ملء فروجه….أشرقت الشمس …وأعلمت التائه المتحمس بحرارتها الشديدة….أنذرته عبر أشعة كانت تختلس المرور بين بقايا سحب الليلة الماضية التي بدأ جمعها في التشتت والتلاشي كمهرجان شعبي داهمته الخراطيم….في وادي ذات الأفاعي حط سرجه …وفي ظل “طلحاية” عجوز جلس وأخرج من جرابه ورقة فيها مكتوب متعرج السطور كآثار جرادة منهكة ، قرأ ثم أخرج أدوات حلاقته وأرسل على لحيته إعصارا جعلها كالحجر الصلد بعد أن كانت غابة من شعر…أخرج سيجارة …ورحل….تمتم: صرت مقبولا بينهم ….استقبل موهوب بحفل كبير وثناء كثير فهو الحسيب النسيب…العالم العامل..المثقف المتوقد….والجهبذ العبقري….والسياسي الواعي….هوغمامة مباركة تداركت ضعف الصدي…كابد كبت خواطر متفرقة ازدحمت في صدره …ألجم بعسر قهقهات ساخرة كادت تفضحه وهو يسمع الثناء عليه من علية لم يحلم بأن يصافحوه ….لكنه لجأ إلى حيلة غريبة..استحضر قطيعه الذي فقده … فغلب الحزن البشارة….أطرق كحمار يستظل ضحوة بجدار بيت خرب يخيل إلى رائيه أنه يفكر في أزلية الكون وأبديته….لقنوه ما يجب أن يؤدي من أدوار…كالخروج من القمقم القبلي والديني والثقافي….فمن التخلف والحيف أن يظل موهوب غير موهوب يحشر فكره المتنور وآراءه الحرة لتبقى راكعة لوثن القبيلة وإله العلوم التلقينية .
لم تمت في موهوب نزعته البدوية بعد , فما زال يكشف المستور , ويذيع أحاديث الليل والسر…وما زال ضعيفا أمام صوت الأنثى ..يرمق أعجاز النساء بأعين قذرة….أعطوه الميكروفون مرة ليذيع بنبرته الجهورية بعض الوعود لجمهور مختلط…..لاحظ أن جمع المؤنث السالم غالب…فقال إنه التقى “ماري تشوي” وهي في الطريق لتمويل مشاريع نسوية مدرة للدخل…غمزه أحدهم مصوبا ….فارعد الطبل وقال هكذا كان يفعل زعماؤنا المحليون من قبل…..وأضاف أن بعثة طبية يرأسها “بوتن” وبعضوية “شيراك وميشل ابلاتين ومسي وجان جاك روسو ” قريبة لإجراء عمليات العين والأنف والبطن….وتقسيم البقر والسكر وسيارات 404 على مناضلي حزبنا …دوى التصفيق وفاجأ موهوب , فارتعش ولم يصدق أن حناجر القوم بحت بالدعاء والتمجيد….فكاد يصدق ما قال وشرع يصفق لنفسه…..
في قاعة الاستراحة علل موهوب لرفقاء البعثة الحزبية أنه عمد إلى تلك الاسماء ليكون مثقفا…وهو لا يعرف من تكون …حفظ بعضها من الأطفال والآخر من خصم صديقه العائد من الخارج…وقد اكتشف بعد دربة وطول مراس ان الشعب تسحره أسماء النصارى واستعمال الكلمات الاجنبية وأن كثرة الاستشهاد بها أكبر دليل على التميز الثقافي والحظوة في أمتنا الغالية…..
ثم بدا لفارسنا انه لم يخلق للسكون والقرار …وكيف يالف البدوي طول مكث في الدار….أليست الصحراء الشاسعة ميدان ترحال …ورمزا للحرية والانعتاق….
أطلق لجواده العنان …فتحرر بعد حبس..وتنفس الصعداء…..وطوى الارض ميلا…ميلين…عشرة أميال ثم اختلط الزمان والمكان واستحال العد…..في وقفته قرب قطيع بقر تحلق يندب فقيدة لعلها كانت ذات شان وقرن أخرج ورقته ….وقرر المكث حتى تتبدل حاله…..استوحش وجهه وهو يرى في المرآة شيخا وقورا يصلح ان يكون له أتباع وأن تقدم له الهدايا والنذور….فاطمان وقال مخاطبا نفسه بصوت مسموع : ” الثانية بقي كم ؟ ثلاثة أوأربعة لا يهم العدد الآن”….وجد نفسه مسبوقا باثنتين…فأكمل الفائت ..لكنه تذكر انه سها عن تفقد صلاتهم هل يقبضون أم يسدلون….قرر أن يجمع بين القبض والسدل …..أكرم موهوب مرة أخرى وصيغت بيانات محكمة النسج بتثمين التحاقه بالحزب العظيم الجديد بعد ان تبين له زيف خطاب الحزب الأول….فهو العالم بن العالم …والقلمس الثبيت…. القدوة الفهامة….والمتخطرف الخانر كما قدمه أحدهم بلغة “فيروزآبادية”….واستحفظ ادوارا بدأت سطحية ثم صار موهوب مفكرا محللا وخطيبا مفوها…..كان يكثر من التلاوة ….يبدا شطر الآية جهرا ثم يخمن نهايتها سرا مع أنين طويل كالضارع يرى جهنم تلقاء وجهه….في إحدى أماسيه الدعائية تحدث للناس عن عظمة القائد الكبير “مراد علم دار” وكيف وقف امام النصارى في معركة عين جالوت …حاول أحد مجاوريه على المنصة أن يصوبه فقال أنا لا أعرف هذه الأسماء لي طفل صغير “يهدرز” بمراد ولي ابن أخ يقرا التاريخ سمعته يقول حطين وعين جالوت…لكن المهم أن يدرك القوم أني عالم ومثقف عالمي وهذا كما تعلم زمن “الحراقة” …وأنا عضو في التجمع الموريتاني “للحراقة” وفيه كثير من علماء البلد وأدبائه وشعرائه ….
في طريق عودة موهوب استوقفه رجل في لباس غريب وساله من تكون ؟ فاجاب موهوب : انا حقيقة هو انا كما تراني لا انقص ولا ازيد…هل انت اعمى يا رجل ؟
الرجل – قدم بطاقة هويتك
قال موهوب : انا في الحقيقة لا أعرف من أنا ولا غيري يعرف من أنا……أنا تارة أكون أنا وتارة أكون غير أنا الذي هو أنا ….مثلا اسمع هل تعرف الوجيه ….هل تعرف الأحزاب السياسية …والطوائف القبلية …هل سمعت بالمعارضة والموالاة ؟؟؟؟ فأنا الذي لست أنا أنتمي إليها جميعا , وأنا الذي هو أنا لا أنتمي إلى شيء لأني دعي سياسي ..ولقيط فكر ..أمارس الترحال السياسي…
ونحن مطالبون بالانتشار في لارض والابتغاء من فضل الله قال تعالى (فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله)….أما التوقف فدليل الموت …والاستقرار صفة القبور…والدور….و نحن أحياء نتحرك لنعيش …وليس لنا وطن محدد ..فالوطن المحدد هو السجن والقيد …وطننا حيث يكون الرعي والماء والصحراء الواسعة والأفق الحر….وقد رأيت بعض الأغبياء يستوطن حزبا معينا أو جماعة محددة وهذا عين السخف وقلة الفهم وقصور الوعي…قدرنا أيها العاقل الألب أن نظل في حالة ترحال كلما أجدبت دار بدلنها بدار مخصبة …وكلما أجدب حزب قربنا أجمالنا ورحلنا إلى حزب أدسم طعاما وأسخى يدا……..أما الشقي في هذا الزمان فهو المتخلف عن ركب المحظوظين ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما ينشد في مرابع المغفلين أشعار عنترة ولبيد وابن أبي سلمى ويلقي على الدمن والأثافي نصوصا وأقفافا بتمجيد الضمير والتشبث بالمبادئ والقيم السامية…..إن ذلك لهو الخسران المبين..فأي قصر فاره شيدته المبادئ ؟ وأي سيارة راقية جلبها نقاء الضمير ؟ وأي قطعان تملأ مابين “آفطوط وفم لكليته” وفرتها يد مغلولة عما تسمونه المال العام…..ومذهبي أيها الرجل هو ممارسة السياحة السياسة بالانتجاع والترحال لذلك ترى حصاني مسرجا أبدا…. لكن – هل أنت مصغ إلي ؟- إياك والعجلة فكلما تباطأت ظنوك تستشير عقلك فابق ردحا من الزمن في منطقة التردد والتحري مفتعلا أنك حرون إذا تعلق الأمر بالبحث عن الأفكار المقنعة والطرح السليم , سيتدفق إليك المال تحت عناوين مناسبة تقيك الشعور بالمهانة والإذلال ..سيقال لك هذه هدية متواضعة يشرفنا أن تتقبلوها منا ….وهذا يساعدك في ما تجود به على أتباعك المتحمسين لنا…..ثم امكث طويلا مع المؤلفة قلوبهم فهم أيضا أصحاب حظوة وإكرام……واسلل لسانك على كل من تأمن شره وبوائقه حتى يخافك الأقوياء والكبار فتنحل صوبك صررهم وتتدفق إليك دنانيرهم…..وجرد قلمك فهو كلب صيد أهل المدينة وأرسله خلف كل صاحب مقام يتتبع عوراته ويكشف سوآته …وتقوَّل عليه إن لم تمتلئ معدة قلمك من نقائصه ثم ترصده وغافله بزخات متواصلات من إسهال اليراع تدنس بريقه وتعفي نضارته ….سيبتغي إليك الوسيلة ناطقة وصامتة سمها هندا وقل ماقال بن حامدن رحمه الله:
مشت بيني وبين الشعر هندي وهندي املح الشفعاء عندي