موريتانيا: من جمهورية “كدية الجل” إلى جمهورية الغاز؟/ محمد السالك ولد ابراهيم
تابعت باهتمام بالغ حلقة متميزة من برنامج “في الصميم” هذا المساء، ناقش فيها الإعلامي أحمدو ولد الوديعة مع الدكتور بدي ولد أبنو، كتابه الجديد “موريتانيا إلى أين؟” الصادر مؤخرا. كان نقاشا شيقا ومفيدا رغم الوقت المحدود، ورغم كثرة وأهمية الإشكاليات المختلفة التي يثيرها الكتاب ويعالجها. كانت فرصة مواتية لإنارة الرأي العام من طرف المؤلف حول كتاب هام يبدو أن فيه الكثير من التاريخ والحاضر.. مع استشراف المستقبل.
استوقفني عمق تحليل الدكتور بدي ولد أبنو، في تأصيله لتاريخية الدولة الريعية في هذه البلاد.. وحديثه عن خيبة الأمل التي تعرضت لها بعد انحسار الوظيفة الريعية بسبب اندلاع حرب الصحراء، وتعطل تصدير الحديد سنة 1977، وربط هذا الموضوع باحتمالات المستقبل في ضوء التسريبات حول أهمية الريع المنتظر من استغلال الغاز الطبيعي، والتي من بينها إمكانية حصول خيبة أمل جديدة قد تقود- لا قدر الله- إلى صدمة كبيرة وما قد ينجم عنها من تداعيات خطيرة على استقرار البلاد ومستقبلها..
ذكرني هذا الحديث الليلة بأبحاث قمت بها منذ سنوات حول التاريخ الشائك والمعقد لإستغلال المناجم في موريتانيا، وحساسية ارتباطه بالسياسة والإقتصاد.. إشكالية الريع وبناء الدولة.. إنه موضوع مقلق.. ولا شك بأنه هذا القلق سيتجدد بشكل ملح مع موضوع ريع الغاز المنتظر.
فالكثير منا لا يعرفون بأن “ميفرما” MIFERMA أو “مناجم حديد موريتانيا” هي شركة دولية متعددة الجنسيات يملكها أساسا القطاع الخاص، حيث تشكلت من 3 شركات فرنسية، و 3 شركات بريطانية، شركة كندية و شركة ألمانية وشركة إيطالية بالإضافة إلى أكبر مجموعة مصرفية يهودية في العالم هي بنوك و شركات “روتشيلد” للتعدين.
تأسست الشركة يوم 16 فبراير سنة 1952 من أجل استغلال مناجم الحديد في أوزيرات نهبا. وقد مولها البنك الدولي بمبلغ 66 مليون دولار أمريكي بتوصية من البارون المتنفذ “غي دي روتشيلد”. وبذلك، دشنت سابقة في تاريخ الإستثمار العالمي، فلم يسبق للبنك الدولي قبلها أن أعطى تمويلات لشركة من القطاع الخاص.
أما الحكومة الموريتانية فلم تساهم في رأس مال ميفرما إلا بعيد الإستقلال سنة 1963 و ذلك بنسبة 5 % فقط، بينما بلغت نسبة مجموعة شركات “روتشيلد” وحدها حوالي 20% من رأس مال الشركة.
صدرت ميفرما إلى الخارج ما بين سنة 1963 و سنة 1974 ما معدله السنوي المعلن 10 مليون طن من خامات الحديد عالي الجودة من مقالع الحديد في أوزيرات.
أممت الحكومة الموريتانية ميفرما في 28 نوفمبر 1974، و دفعت حينها للمساهمين الأجانب تعويضا ماليا يقدر بـ 110 مليون دولار منحت منها الكويت 40 مليون قرضا والباقي دفعه العراق والجزائر وليبيا و السعودية هبة. ومنذ ذلك التاريخ، أحيلت ممتلكات ميفرما و صلاحياتها إلى شركة وطنية تأسست على الورق سنة 1972 تسمى “سنيم”.
أما بخصوص تسمية كدية الجل بجبل الحديد، فلم أتمكن جيدا من سماع ما ذكره الدكتور بدي عنها، لكني أتذكر بأني وجدت خلال الأبحاث التي قمت بها آنذاك، بأن هذه التسمية تعود للقرن الحادي عشر الميلادي، ونقلها الرحالة والجغرافي المشهور أبو عبيد الله البكرى، وقد وردت التسمية -نقلا عنه- لأول مرة في المؤلفات الغربية تحت اسم “Iron Mountain” بالإنجليزية أو “Idrar inouzzal” بالأمازيغية في كتاب Raymond Mauny وهو موجود عهدي به على موقع Google Books
كما تذكر المصادر بأن بداية اهتمام الفرنسيين بجبل الحديد تعود إلى مقال نشره باحث فرنسي في نهاية القرن التاسع عشر حول تحليل أجري على حجر من كدية الجل، جاء به أحد الرحالة الفرنسيين.
ومنذ بداية القرن العشرين، بدأ النظر إلى كدية الجل ككنز من الحديد في الصحراء، بعد تواتر العديد من التقارير والإخباريات التي كتبها الجنود الفرنسيون والباحثون حولها، قبل أن تقوم بعثات مختلفة بالاستكشاف والبحث الجيولوجي الميداني في كدية الجل.
للأسف لم أتمكن بعد من اقتناء الكتاب، الذي يبدو في غاية الأهمية والتميز بطابعه العلمي البعيد عن النزعة السجالية السياسيوية التي كانت سائدة.. وستكون لي عودة إلى الموضوع إن شاء الله.. بعد الإطلاع عليه..
في الأخير، أتقدم بالشكر الجزيل للمؤلف الباحث المتميز بدي ولد أبنو على هذا العمل الهام.. والإضافة النوعية للمكتبة الموريتانية، والشكر موصول كذلك للإعلامي المتميز أحمدو ولد الوديعة، على هذه الحلقة المتميزة من برنامجه ذائع الصيت..
طابت ليلتكم..
*****
الصورة: منظر لـ “كدية الجل” من الفضاء الخارجي كما صورتها وكالة “ناسا” الأمريكية
79 تعليقات