الوحدة الوطنية.. موريتانيا نموذجا / محمد فاضل سيدي هيبه
الوحدة الوطنية! عبارة كم أصبحت مبتذلة من كثرة التكرار و الاستخدام العشوائي فصار من اللازم وهي اليوم حديث الساعة الذى يكاد يغطى كل المواضيع الأخرى، أصبح من الملح إعادة الاعتبار إليها كونها ترمز إلى ضرورة حياتية هي الوحدة والاتحاد، السلاح المضاد والأكثر نجاعة فى مواجهة ظاهرة الاختلاف والتناحر المدمّرة والمتربصة فى كل حين و آن.
كيف نعرف الوحدة الوطنية؟ و ما هو دورها فى تطوّر المجتمعات و بناء الأوطان؟.. ما هي مصداقية هذا الشعار الذى يرفعه رجال السياسة على الدوام من دون تحديد محتواه، حيث لا يعتبر خطيب خطابه مقنعا إلا إذا صدح به بصوت عال، و حيث يرى كل حزب برنامجه ناقصا ما لم يدرجه فى ديباجته؟ هل الذى يحرّك هؤلاء وأولئك هو الحرص الصادق على الوئام الوطني و التآلف بين طبقات المجتمع و مختلف الحساسيات السياسية؟ أم أنهم يجعلون من هذا الشعارأداة لتحقيق غايات شخصية أومناطقية أوايديولوجية لاغير؟ أم هو مجرد مادة لملء فضاء أبيض في وسائل الإعلام و برامج الأحزاب التى لا برامج لها؟ هل هو موضة من الموضات السياسية الرائجة التى لابد من مواكبتها و الجري وراءها؟.. و ما علاقة الوحدة الوطنية بالهوية القومية و بالديموقراطية؟
أسئلة سنحاول أن نجيب عنها مدفوعين بطبيعة الحال بمجرّد الرغبة في إثارة مسألة محورية لم تشكل قط مادة لنقاش أو حوار جاد في الوقت الذى تدار الندوات و تدبّج المقالات في مسائل كثيرة تافهة أو على الأقل ليست لها أهمية هذا الموضوع.
لكن قبل الإجابة على هذه التساؤلات لا بد من التذكير بحقيقة، بل بمسلّمة لها تأثيرها الحاسم على كل مبادرة ذات طابع وطني و بخاصة فى ما يتعلق بالوحدة الوطنية، كما سنرى : موريتانيا ليست مستقلة تماما وسيادتها ليست كاملة بسب وقوعها تحت النفوذ الفرنسي سياسيا و اقتصاديا و ثقافيا رغم طغيان الرموز الخارجية لهذه السيادة على المشهد العام. مسلّمة تغيب عن عامة الناس الذين يخدعهم ادعاء استقلال البلاد سنة 1960، و يعرفها قلة من السياسيين لكنهم يتظاهرون بجهلها، وفاء لمصالحهم الضيقة .. أبرزشواهد هذه التبعية وأكثرها إيلاما تخلف البلد المزري بعد مضي نصف قرن من “الاستقلال”، و قد كنت بيّنت ذلك فى معالجة سابقة يمكن الرجوع إليها فى بعض المواقع الالكترونية، و كنت الوحيد فى طرق هذا الموضوع الذى يبدو أن الجميع يفضلون السكوت عنه.
ما هي الوحدة الوطنية؟
الوحدة الوطنية مفهوم حديث و مصطلح ظهر مع تكون الدولة الوطنية المعاصرة، لكنها كظاهرة إنسانية، قديمة قدم المجموعات البشرية المتحضرة نفسها و تتجلى تلقائيا من خلال التفاف الناس حول الحاكم عندما يكون عادلا و وطنيا، وهي الحالة الأندر كون تاريخ البشرية و لحكمة الله أعلم بها، يغلب عليه التدافع و التنافر و العداء، أو اثر حدوث أمر جلل فى حياة هذه المجتمعات كغزو أجنبي، أو كارثة طبيعية، زلزال أو وباء أو جفاف أوغرق…
أما التعريف الأكاديمي للوحدة الوطنية فهو صعب لغياب هذا المفهوم من المناهج التعليمية و الدراسات و الرسائل الجامعية و غيرها من المنشورات. لكن يمكن أن نقول إنها ثمرة تضافر و تفاعل عناصر الانسجام مع عناصر التباين القائمة فى المجتمع من جهة، و التوظيف الإرادي المعقلن لهذا التفاعل بغية تحقيق الأهداف السامية للأمة من جهة ثانية.
عناصر الانسجام هي: الرغبة الطبيعية و الاستعداد الفطري عند البشر- بالتوازي مع جبلة التنافر- للتعاون و الاتحاد من أجل بناء المجتمع، إضافة إلى الدين الذى يدعو لبلوغ الغاية نفسها. و لا بد أن نشير هنا إلى خاصية منّ الله بها على شعبنا و قلّما تتوفر فى المجتمعات الأخرى أعنى انتماء هذا الشعب بأكمله، عربه و عجمه إلى دين واحد هو الإسلام و مذهب واحد هو المذهب المالكي. انسجام تام إذن داخل منظومتنا الدينية حيث لا ديانات مختلفة و لا طوائف متنازعة..
من عناصر الانسجام الأساسية الكامنة فى المجتمع كذلك الشعور بالانتماء لوطن واحد يلحق الضرر بالجميع فى حالة حصول أي خرق لسفينته، و إدراك وجود مصالح مشتركة داخل النسيج الاجتماعي يتعيّن دائما على الجميع المحافظة عليها… و إن كان هذا الشعور ما زال مع الأسف ناقصا إلى حد بعيد عندنا.
أما عناصر التباين، و يسميها الماركسيون التناقضات، فتتلخص فى العلاقات الأفقية و العامودية القائمة داخل التكوينات المختلفة الفئوية و الطبقية و القومية و الثقافية الخ.. فى ما بينها هي نفسها من جهة و بينها و بين محيطها من جهة ثانية.. و هو تنوع لا يكاد يحصى. منه الذى هو قائم بين الطبقات العاملة و أرباب العمل، ومنه الخاص بالمنطقة و الولاية و الجهة و الشرائح الاجتماعية، و منه العامل القبلي و تنوع اللغات و الطوائف المذهبية الخ…
ما هو دور السلطة الوطنية إزاء هذه الفسيفساء الاجتماعية؟ يتمثل هذا الدور فى تحويل هذه العناصر والمواد الخام و لملمة الطاقات الآتية من آفاق شديدة التنوع والاختلاف مع عناصر الانسجام و التوحّد الموجودة أصلا، و صهرها فى قالب مندمج و فى خطة ستراتيجية دائمة التحديث للوصول إلى الأهداف المنشودة.
إذا تفحّصنا عناصر التباين واحدة واحدة سنجد مثلا أن المناطق أو الولايات متباينة فى مستويات النمو و الصحة و التعليم الخ… و أن التمايز الطبقي مستحكم فى المجتمع و أن شرائح الحراطين والصناع و أزناكا و ايكاون واقعة في الحيف، و أن المرأة متأخرة عن الركب، و أن الأقليات الزنجية تطالب بمزيد اعتبار و أن الأغلبية العربية تشعر بمحاولة لطمس هويتها و هلمّ جرا…
إن الخطأ الذى ترتكبه الأنظمة المنغلقة، التى لا تؤمن بالانفتاح على مطالب الناس و حقوقهم هو نظرتها السلبية المبدئية إلى كل ظاهرة تباين، و منها المطالب المشروعة المختلفة التي تأتى من الجهة المقابلة، جهة الشعب. هذه النظرة هي أكبر خطر على الوحدة الوطنية حيث تعمّق الصراعات القائمة بين مختلف المكونات الاجتماعية و القومية لتظل السلطة هي الحكم وهي أصل البلاء. لكن لكي تتقدم هذه العناصر ـ أو المطالب ـ إلى أمام متضافرة مع القيم الايجابية الثابتة للمجتمع فى تناغم و تكامل، فإنها تحتاج إلى توفّر عاملين أساسيين هما الاستحضار الدائم لهذه القيم الموحّدة (بكسر الحاء) كالدين و الوطنية و المصالح المتشابكة، بغية توظيفها في تذليل التناقضات و تقارب الأهواء و الأمزجة من جهة، و من جهة ثانية إلى تفعيل الدور الحاسم للسلطة الوطنية فى الدفع بهذه العملية المزدوجة إلى مستوى من الفاعلية يحقق النتيجة الرائعة التى نسميها الوحدة الوطنية.
بعبارة أخرى فعندما تعالج الاختلالات المجتمعية الكبرى، أو يخفف من غلوائها على الأصح، لأن الحلول المثالية غاية لا تدرك، فسيصبح الوطن مهيئا لقفزة حضارية تتحقق فيها أهداف الرقي و العدالة و المساواة.
علاقة الوحدة الوطنية بالديموقراطية
يكاد المفهومان أن يكونا مترادفين لأن كل واحد منهما يتضمن مبدأين أساسيين هما العدالة و المساواة. فبقدرما تهيّؤ الديمقراطية ـ بواسطة أدواتها المعروفة ـ الأرضية لتفجير الطاقات و مختلف المطالبات بالحقوق المتعددة فان الوحدة الوطنية هي الحاضن و الموجّه لهذه الطاقات. الديمقراطية تساعد على بروز الاختلالات إلى العلن من خلال حراك حميد هدفه حمل الجهة المخوّلة أي الدولة و سلطتها التنفيذية على القضاء عليها (أي على الاختلالات) .. و الوحدة الوطنية تجنى الثمار و توزّعها بعدالة على الجميع. الشيء الوحيد الذي لا تتصوّر معه لا الوحدة الوطنية و لا الديمقراطية هو بطبيعة الحال الحكم الفردي و الدكتاتورية. مثل هذه الأحكام لا يقبل إلا نمطا واحدا من الوحدة، وحدة أساسها تقديس الحاكم و سدّ الباب أمام أي رأي مخالف. حتى و لو تظاهرت هذه الأحكام فى وقت ما بعكس ذلك و أتاحت بعض الممارسة الشكلية لحرية الرأي أو التنظيم.
إليكم مثالان للتكامل بين الوحدة الوطنية و الديمقراطية : عندما تم الاعتداء على جنودنا فى مناسبات عدة (لمغيطي، نواكشوط …) هبّ الشعب لنصرة الجيش و تداعت الأحزاب و منظمات المجتمع المدني لخلق رأي عام نتج عنه جو من التلاحم و التوحّد كان بمثابة رسالة رادعة للإرهابيين.
النموذج الثاني لهذه الصورة: حالات العطش التى عانت منها بعض مناطق الوطن الداخلية مثل مقطع لحجار. تحرك الإعلاميون و السياسيون و بقية الرأي العام تضامنا مع المواطنين المتضررين لتسليط الضوء على المشكلة و وضعها فى دائرة الاهتمام، حتى تمت معالجتها. فى كلتا الحالتين كان التكامل جليا بين مختلف الناشطين و يقظة المواطنين و عمل الدولة. لولا التكامل بين هذا الثالوث لربما عاود الإرهابيون اعتداآتهم بعد ذلك و زاد العطش فى فتكه. فى تاريخ بلدنا أمثلة أخرى من هذا التلاحم و التكامل بين مختلف الفعاليات الوطنية من سلطة حاكمة و أحزاب و منظمات فى مواجهة كل خطب أو كارثة، مثل حرب الصحراء …
يقظة الفئات الاجتماعية المسحوقة و دورها فى الوحدة الوطنية
إن الوعي المتنامي ـ و المفاجئ شيئا ما ـ للشرائح الاجتماعية المظلومة تاريخيا يعد من أبرز التحولات التى شهدها البلد منذ عقود من الزمن. الحراطين هم الفئة الأهم من حيث الوزن العددي و من حيث طبيعة وضعهم الاجتماعي عبر التاريخ .. أما تاريخيا فأغلبهم ينحدر من آباء أجبروا على فقد حريتهم تحت الاستعباد الفظيع فى زمن سحيق ظل يقع عليهم فيه عبؤ تحريك الماكنة الاقتصادية البدوية.
لقد بدأت الظروف تنضج بالنسبة إلى رجال و نساء هذه الشريحة حيث قذفت بهم إلى واجهة الأحداث عبر تيار جارف لا يبدون مستعدين لوقّفه إلا بعد رسوّ سفينتهم على شاطئ الحرية التى ينشدون.
كانت البداية مع تيار “الحر” أبرز المنظمات المناهضة للرق و الداعية إلى تحرر الحراطين أواخر الثمانينات و حقق نجاحات معتبرة لأطروحاته تمت ترجمتها المنظمة إلى واقع ملموس و متدرج من خلال تزايد وعي أبناء هذه الشريحة لواقعهم و طريقة تغييره نحو الأفضل، و مشاركتهم المعتبرة فى تسيير شؤون البلد فصار منهم الوزراء و السفراء و النواب، و منحهم جو الديمقراطية إمكانية تأسيس أحزاب و منظمات و غيرها من التشكيلات المدنية و أصبحوا ينتزعون حقوقهم شيئا فشيئا على نهج سلمي ملفت سيسجله لهم التاريخ كمستوى عالي من النضج و الروح الحضارية.
إن الحراك ألمطلبي و السياسي للحراطين يعانى رغم ذلك كما هي الحال بالنسبة إلى التنظيمات المجتمعية و السياسية الأخرى من خلافات و تجاذبات متعددة. ظاهرة صحية نعم فى مدلولها لكنها قد تحمل فى طياتها بذورا تخل بالوحدة و السير قدما نحو الأهداف المنشودة.
يمكن تصنيف مجموعات هؤلاء الفاعلين إلى فئتين، فئة مندمجة فى اللعبة السياسية ككل مع قدر من الاحتفاظ بخصوصيتها، و فئة خارج هذه اللعبة إن صح التعبير، أوعلى الأقل لها قدم فى النظام السياسي الرسمي و أخرى خارجه، و هي حال منظمة “ايرا” غير المرخصة. يختلف النهج السياسي لهذه الحركة عن المنظمات و الأحزاب الأخرى حيث تتبنى خطا متطرفا تطبعه عنصرية صريحة تجاه العرب البيض و صلة وثيقة بمنظمة “فلام” البولارية ذات الخطاب العنصري المتطرف هي الأخرى.. و قد أحدثت “ايرا” فى المشهد السياسي الموريتاني ضجة و جدلا لا سابق لهما عندما أقدم قادتها و على رأسهم زعيمها الكاريزمي و المثير للجدل بيرام ولد الداه ولد عبيدي، على حرق بعض كتب الفقه المالكي باعتباره يكرس النخاسة. خطاب “ايرا” المتطرف يجد صدى له عند بعض زعماء النقابات و المنظمات الحقوقية من أمثال “نجدة العبيد” و غيرها. تجد “ايرا” كذلك حظوة ملفتة لدى الدوائر الحقوقية الغربية و حتى عند الولايات المتحدة التى بلغ بها الحماس إلى تكثيف لقاأت سفيرها فى نواكشوط مع قادة المنظمة و دعمهم علنا غير عبئ بمقتضيات الدبلوماسية. أما آخر تجليات هذا الغرام هو تتويج بيرام ومنحه وسام دكترا فخرية من جامعة عريقة فى بلجيكا… لا يعدو كون هذا التبنى داخلا فى عملية كلاسيكية ديدنها التقاط كل شخص أو منظمة تهتك الحرمات الدينية أو القومية، و تلعب فى الوقت ذاته دورا تخريبيا و تقطيعا لعرى الوحدة الوطنية و السلم الاجتماعي لأي بلد ابتلي بها.
إن التيار الاجتماعي السياسي للحراطين مهيأ ربما أكثر من غيره إلى لعب دور أساسي فى مسار الوحدة الوطنية باعتبار وزنه و ديناميكية النخب التى تقوده و خطه السياسي و الاجتماعي التقدمي و المعتدل فى آن.. لكنه يحتاج مع ذلك إلى تجديد فى منهجه و توضيح لبعض رؤاه على مستوى المبادئ، مثل حسم و تأكيد هويته العربية التي تنبني على الثقافة و على رأسها اللغة وعلى التاريخ المشترك مع أشقائهم البيض رغم ما تخلل ذلك التاريخ من ظلم لمجموعتهم، و على المساكنة و الوشائج الأخرى كالسايكولوجية و الآمال و التطلعات المشتركة… كما يلزم هذه الفئة تجنب الوقوع فى فخ عوامل اللون و الأصل و الانتقام كأساس لبناء موقفها تجاه أشقائها هؤلاء أو كتموقع تدفع إليه التجاذبات السياسية.. هذه الهوية الطبيعية و الواضحة المعالم يوجد من يشكك فيها و يحاول جرّ الحراطين إلى متاهة يكونون فيها إما تابعين لمكوّنة الزنوج التى لا يربطهم بها إلا عامل اللون، و تدعو لذلك أقلية منهم متواجدة بالأساس فى منظمة “ايرا”، أو يستحدثوا قومية مستقلة أنى لهم أن يجدوا لها مقومات.
الشرائح الشعبية الأخرى المهمّشة تاريخيا هم “الصناع” أو “لمعلمين” و المطربين “ايكاون” و “أزناكا” و هم فئات من المجتمع العربي .. أما “الصناع” فهم الأكثر عددا و أقسى اضطهادا رغم دورهم التاريخي فى نشأة و تطور المجتمع البظاني حيث كان يقع عليهم بموجب نظام “توزيع المهام” المعتمد الجانب اللوجيستي و التكنولوجي إن صح التعبيران، مما أعطاهم ميزة فى وظيفة العقل و “شطارة” يعترف لهم بها الجميع.. و إن تحوّلت هذه الميزة، الشطارة، إلى موضوع سخرية منهم.. يا للعجب!
كم كانت بالفعل محزنة و ظالمة و فى نفس الوقت مثيرة للحيرة مكافأة التاريخ لهؤلاء الحرفيين/ الضرورة!.. كوفؤا بالنبذ مخالفة للمنطق و العقل و الدين!.. ليست الصفة مبالغا فيها فوضعهم يذكّر بطائفة “المنبوذين” الهنود الذين لا يختلط بهم و لا يتزوّج منهم.
لحسن الحظ ليست هذه الشريحة الهامة والمعتبرة عدديا بمعزل عن ما تشهده البلاد من تحولات. فقد بدأ الوعي يدب فيها، و ما التجمعات و الكتابات و النشر عبر الإعلام التى يقوم بها نشطاهم إلا إرهاصات هذا الوعي و ليس من شك فى أنه سيتواصل فى إطار وحدة وطنية يكون لهم فيها دور مميّز.
أما مجموعة “ايكاون” فتغلب أهمية دورها الثقافي و التاريخي على حجمها العددي المتواضع. فهي تكاد تكون مؤسسة بحد ذاتها تضطلع بأدوار تاريخية كل واحد منها له أهميته الخاصة : فنّ الغناء و الطرب، السهر على الموروث الشعبي بألوان طيفه المختلفة.. فضلا عن دورها فى تهذيب بلاطات الأمراء و نفخ معاني الفتوة فى الأرستقراطيات العشائرية.. لقد نالت هذه “المؤسسة” كغيرها نصيبها من التطور الحتمي و لم تعد جوالة بين مختلف الأوساط لكسب رزقها و لا “مملوكة” لأمير من الأمراء و لا هجّاءة و لا مدّاحة على الطريقة القديمة.. لكنها استقرت على حالها مثلها كمثل فئات المجتمع الأخرى و قد طوّرت حرفتها تمشيا مع إيقاع الظروف العصرية. دون أن تتخلى رغم ذلك ـ و هذا تحد جدي ـ عن اعتماد احتكار هذه الحرفة، احتكارا عفا عليه الدهر، ولا عن تمسكها الرجعي المتزمت بامتهانها وراثته. للمجتمع ككل و للسلطة الحاكمة بطبيعة الحال دورهما فى هذا الأمر.
مهما يكن فان المطربين، أو الفنانين، كما يطلق عليهم اليوم مؤهّلون هم أيضا للعب دور كبير فى لمّ شتات الشعب الموريتاني عبر فنّهم الذى يستطيع تعميم رسائل الحب بين مكوّناته و دعوة الجميع إلى تبنى المواطنة كقاسم مشترك و تسليط الضوء على ما تحمل الانتماآت الضيقة من سلبية و خطر على النسيج الوطني …
فئة “أزناكا” أخيرا. هي فئة موكّل إليها تاريخيا بتسيير النشاط الحيواني، وهي و إن كانت تعتبر فى السلّم المتدني من المجتمع إلا أنها اليوم ذابت كفئة أو تكاد بفعل التمدن و تغيّر الطرق التقليدية للتنمية.. لكن التهميش و معه اعتبار الدونية ما زال يلاحق الأفراد. فالازدراء و الاحتقار يلازمان كل شخص عرف أنه ينحدر من هذه الفئة و التعامل معه يكون من فوق و تمنع معه آصرة الزواج تماما مثل .. لا شك أن من مصلحة هؤلاء الانخراط فى عملية التوحد الوطني التى تقتضى إذابة الفوارق البائدة بين شرائحه.
نشر هذا المقال فى مايو 2014