رسملة الأمن / البكاي ولد عبد المالك
الرسملة (la capitalisation) مفهوم اقتصادي واسع الانتشار في المالية والمحاسبة وبعيدا عن دلالته التقنية نقصد به هنا تحويل الأمن إلى رأسمال حقيقي ومصدر للدخل قابل للزيادة والنمو.
ونعني بالرسملة الأمنية هنا بشكل أكثر تحديدا تحويل الأمن إلى مصدر للدخل سواء من خلال الفساد والتواطئ المحتمل بين بعض أفراد المؤسسة الأمنية على الأقل وبين العصابات الإجرامية واللصوص المحترفين وتجار المؤثرات العقلية…إلخ أو من خلال انتشار ظاهرة الأمن الخصوصي أو ما يعرف بـ “شركات الأمن” قبل أن يكون هناك أمن عام يضطلع بدوره في حماية المواطنين وفرض هيبة الدولة في مجتمع فوضوي.
وبتعبير أكثر وضوحا نتحدث هنا عن بيع خدمة الأمن وجعلها مصدرا للدخل الخاص على حساب أمن المواطنين العزل بل وأمن الدولة ذاتها وهيبتها يتعلق الأمر إذن بتحويل الخدمة الأمنية التي هي في الأصل حق للمواطنين وشرط من شروط العقد الاجتماعي إلى مصدر للدخل الخاص ومورد يحقق قيمة مضافة إلى بعض الشركات الخاصة وتحويل ذلك العائد شيئا فشيا إلى أصول طويلة الأمد وحقوق خاصة قابلة للتوريث .
لقد تحول الأمن عندنا أو هو في الواقع بصدد التحول إلى رأسمال حقيقي قابل للزيادة والتنمية بالنسبة للبعض، وإلى حرفة مدرة للدخل بالنسبة للبعض الآخر وتحولت بعض “خلايا” الأمن التي تعمل خارج المؤسسة الرسمية إلى شركات مساهمة توفر الخدمة لزبائنها وتوزع الأسهم مجانا لتوسيع مصادر الدخل ورسملتها. إن كنت مخطئا فيما ذهبت إليه فمن يستطيع أن يفسر لي ما يحصل لأمننا العام هذه الأيام :
محاولات متكررة للاغتصاب في وضح النهار هنا وهناك وفي عتمة الليل في مناطق كانت آمنة حتى عهد قريب مثل النعمة وتمبدغة ويستوي في ذلك الحامل والمرضع والكاعب والمعصر، قتل هنا وحرق للجثث هناك وتشويه وتمثيل بأجساد الآدميين!! تحرير للمجرمين المحكومين بجرائم تتعلق بالسطو المسلح والتهديد بالسلاح ؟! (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ..)، عصابات تصول وتجول في العاصمة وفي غيرها مثل “الگيمارة” في صحراء آوكار؟ تظاهرات قبلية ومظاهر مسلحة علنية مثل القبيلة البدائية في الأدغال الإفريقية؟ فمتى سيكون لهؤلاء علمهم ونشيدهم الوطني؟! رجال محترمون (والله أعلم بحالهم) يعتدون في أعظم عملية سطو واحتيال في تاريخ البلد على ممتلكات المواطنين وعلى الاقتصاد الوطني في استغلال فاضح لنفوذ وهيبة من لديهم مقاليد السلطة في البلد دون أن تحرك السلطات العليا في البلد ساكنا؟ وفي الأخير مواطنون يخرجون لاستعادة ممتلكاتهم بالقوة بعد أن يئسوا من عدالة الدولة ؟ ماذا يمكن أن يترتب على كل ذلك هل ننتظر بالفعل أن ينهار البلد على رؤوسنا وتندلع شرارة الحرب والفوضى حين لا ينفع الندم؟!!
موقفان رأيتهما في بلدين من بلدان شبه المنطقة أظهرا لي بالفعل هشاشة الأمن عندنا كنت في زيارة إلى تونس وقادني الحديث مع سائق التاكسي إلى المطار حول موضوع فوضوية النقل في البلدان العربية فقلت له إننا نعاني من مشكلة تنظيم النقل خصوصا استعمال الخواص لسياراتهم الشخصية كسيارات أجرة بدون ترخيص أي دون استفادة الدولة من الضرائب عليها من جهة وفي اعتداء صارخ على حقوق أصحاب الأجرة الفعليين الذين دفعوا رسوم الاستفادة من تلك الخدمة في حين أن غيرهم هو الذي يجني ثمارها. قلت له إننا عاجزون في موريتانيا عن وضح حد لهذه الظاهرة فأجابني بكلمة واحدة قائلا : “أمنكم ضعيف”. فتحول لساني على حد تعبير محمدُ ولد الصلاحي في “يوميات غوانتنامو” إلى ما يشبه “قطعة معدن ثقيل في فمي” ومع ذلك تحاملت على ضعفي وعزمت على التعبير له عن احتجاجي على الإساءة وسوء التعبير بطريقتي فقلت له مستنكرا ما معنى ذلك؟! قال يكفي أن تخرج دورية أمن واحدة متنكرة معززة بقوة القانون وحمايته ليوم أو يومين في أماكن مختلفة من المدينة فتصادر سيارات المخالفين وعندما ينتشر الخبر سيكون في ذلك ردعا لغيرهم.. فتذكرت قول الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي: “الحارس الغبي لا يعي حكايتي.. هذا أنا وهذه مدينتي..” وقلت في نفسي من المؤكد أن هذا المسكين لا يدري أن المجرم يدخل إلى السجن عندنا وهو على دراية مسبقة بموعد خروجه منه إن لم يكن ذلك بتنسيق مسبق وبظروف أخجل عن شرحها له وعن بسطها هنا!!
وكنت مقيما بأحد الفنادق بالمغرب في السنة الماضية ولاحظت أن أحد شبابيك الغرفة يغلق بالسحب فقط فتحدثت في وضع استعجالي إلى أمن الفندق بشأن الموضوع لإصلاح الوضع فقال لي أحد المسؤولين عن أمن الفندق في صيغة استفهام إنكاري : “ومن يستطيع الاقتراب من هنا”، وكأنه يقول لي من أين جئت ؟ أهكذا هي الأمور عندكم؟!
خطورة الحوادث الأخيرة لا تكمن في أنها غير مسبوقة فقط في تاريخ هذا البلد بل في كون الجريمة أخذت أو أريد لها أن تأخذ طابعا عرقيا فئويا أو عنصريا : فكل الجرائم في البلد أصبح يتم تكييفها لدى الجميع على أنها جرائم عنصرية فهل يعني هذا أن هناك جهة ما تخطط لإشعال فتيل الحرب الأهلية ؟! لم لا نكشفها ونعاقب الضاعلين فيها بأسوإ ما فعلوا ويفعلون ؟!
لكنني أنا في الحقيقة لا أضع اللوم على “الگيمارة” والصعاليك في أرض الله الواسعة ومن يلوم “الگيمارة” على الصيد وتقطيع الطريدة وشيها؟ ولا حتى على بعض أفراد الأمن ممن يلتمسون لأنفسهم سبيلا للعيش وإن بأسوإ الطرق وأقذرها، ولا لسماسرة الأمن الذين يبحثون عن الربح وتنمية شركاتهم المساهمة..بل على الدولة والحكومة لإخلالها بشرط مهم من شروط العقد الاجتماعي، الشرط المسؤول عن نشأة الدولة ذاتها ككيان مشترك له وظيفة أساسية هي توفير الأمن وحماية الملكية الخاصة. فلاسفة العقد الاجتماعي الذين وضعوا أسس الدولة المدنية الحديثة حددوا لها تلك الوظيفة الأساسية المزدوجة التي بموجبهما يتم الخروج من حالة الطبيعة أو قانون الغاب الذي يتحدد فيه الحق بمعيار القوة إلى حالة مدنية يتخلى فيها الجميع عن حقهم في استعمال قوتهم الطبيعية للدولة في مقابل حمايتهم وحماية ممتلكاتهم لدرجة أن بعضهم منح الحق للمواطنين في مقاومة السلطة ذات السيادة في حالة الإخلال بذلك الشرط الجوهري.
والحقيقة أن رمز سيادة الدولة الأول وقوتها يكمن في إثبات عدم القدرة على الإفلات من العقاب لأي كان، وعدم شعور كل من يتربص بأمن مواطنيها والمقيمين على أرضها بالأمان والطمأنينة.
هذا الأمر يحتم علينا في المدى المتوسط إعادة بناء الأجهزة الأمنية بناءا قويا يأخذ في الاعتبار الكم والكيف معا في عملية التكوين ولا بد أن يحتل التكوين الأخلاقي والولاء للدولة وتقديسها أولوية الأولويات في عملية التكوين هذا الأمر لا ينفصل عن توفير الظروف المادية المناسبة لتوفير حياة كريمة لأفراد الشرطة وقوات الأمن وتحصينهم ضد كل الإغراءات وكل الانحرافات مهما كان نوعها ..وبذلك نعيد الاعتبار لجهاز الأمن الذي هو أهم جهاز يعبر عن هيبة الدولة أو ما يسمى في العرف الفلسفي السياسي بـ”جوهرانية الدولة” (la substantialité de l’Etat) أو “سلطة الإكراه” (le pouvoir coercitif) التي بدونها لا تسمى الدولة دولة.
في انتظار ذلك أدعو إلى خطة استعجالية للإصلاح في مقدمتها استدعاء متقاعدي الشرطة من أصحاب الكفاءة والتجربة وكذا المتقاعدين في الأسلاك العسكرية وإجراء عقود لمدة سنة قابلة للتجديد لتكملة الدور الذي تقوم به قوات الأمن في حماية أمن المواطنين وتأكيد هيبة الدولة.
ومع علمنا الكامل بالكفاءة التي يتمتع بها القيّمون على الأجهزة الأمنية العليا في البلد إلا أنها في الحقيقة كفاءات توظف في غير محلها فالأمن علوم دقيقة وفنون تخصص لها الدول الأكاديميات والكليات والمعاهد العليا التي تدرس فيها العلوم الشرطية على اختلافها سواء منها ما يتعلق بطرق التعامل مع الجريمة والمجرمين أو ما يتعلق بأمن الدولة وحماية أمن المواطنين والمقيمين وممتلكاتهم باستعمال القوة الناعمة والقوة الصلبة إذا اقتضى الأمر ذلك وفي حدود القانون لكنهم في المقابل لا يصلحون لغير ذلك مثلما أن للجيش أيضا مؤسساته التكوينية التي يتعلم فيها الضباط وضباط الصف والجنود أساليب التعامل مع العدو ومختلف الأمور المتعلقة بالأمن الخارجي فالجيش ليس من مهمته ولا من اختصاصه الأمن الداخلي كما أن الشرطة ليس من مهمتها ولا من اختصاصها الأمن الخارجي: فلا يمكن على سبيل المثال استخدام طائرات أف16 في قمع المتظاهرين في الأزقة والشوارع الضيقة داخل المدينة ولا يمكن أن تستخدم خراطيم المياه لصد هجوم العدو الخارجي فلا هؤلاء ولا أولئك يمكنهم أن يعوضوا الدور الذي يقوم به الآخرون بل إن استعمال أي منهما في مكان الآخر يتضمن إساءة كبيرة إليه وإحراجا له.