غَزواني و ولد ببكر صِراعُ نظامٍ ونهايةُ مُعارضة.. / د. أمم ولد عبد الله
اعتاد معظم الموريتانيين على الاصطفاف مع مرشح النظام، مستخدمين في ذلك العديد من المبررات التي قد تُجانب المنطق في غالبيتها، لذلك كانت جل الدعايات بمافيها الحديث عن الإنجازات والشّفافية، ونزاهة الانتخابات هي في الحقيقة تِكرار للسّيناريوهات ذاتها المحسومة سلفاً، فعلاقة العقل الجمعي الموريتاني بالمخزن فيها الكثير من الخوف والتسليم بكل تصوراته، وتوجهاته-بغض النظر عن صوابها من عدمه-، يبدو ذلك واضحاً من خلال المُسلَّمة الشعبية المتداولة في أوساط النخبة المثقفة “الحَكُومةُ ماتُعاندْ”، عدم العِناد هذا ظهر في تموقعات السياسيين من أحزاب الدولة منذ الاستقلال، بدءاً بحزب الشعب الذي أسسه المرحوم المختار ولد داده (1960-1978) إلى حزب الاتحاد من أجل الجمهورية (2009- 2019؟…).
ربما تكون الخاصية التي يمتاز بها الموريتانيون عن غيرهم هي قدرتهم الخارقة على التّرحال السياسي حيث توجد السلطة رغم كثرة الانقلابات، ولعل حالة الحزب الجمهوري (PRDS) الذي أنشأه معاوية ولد سيدي أحمد الطايع سنة 1991أكبر مثال على المرونة التي يمتاز بها الطيف السياسي في ذلك المنكب البرزخي، المقبل خلال فترة وجيزة على استحقاق انتخابي، قد يكون مختلفاً عن سابقيه لكونه يُمثل صراعاً داخل نظام واحد، تتوزع أقطابه بين مرشحين لهذه الانتخبات، ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك التّوزيع على حسم التنافس بينهما رغم فارق القوة.
غزواني مُرشّح النّظام الذي بدأيُقلِقُه :
لاشك أن غزواني سيستفيد كثيراً من نظرية “حزب الدولة” التي ترتبط بالأشخاص أكثر من ارتباطها بالمؤسسات، فقد بدت تلك النظرية حاضرةً في محاولة أصحاب لـ UPR) ) إقناع الرأي العام بمحمد ولد الغزواني، لذلك سوّقوا كثيراً للعلاقة بين المُحمّدَين التي تُخيف معظم رجال الأعمال الذين لم يعودوا مستعدين لدفع ضريبة المعارضة التي تعني مصادرة الممتلكات من خلال ضرائب تفوق رأس المال، هذا فضلاً عن إغراء الباحثين الجددعن موطن لهم في موريتانيا الغاز، تبدو ثُنائية الخوف والتّهافت التي تحكم علاقة غزواني بمعظم مؤيديه ظاهرةً بوضوح في مبادرات التأييد التي انتشرت في كل ربوع بموريتانيا تحت العنوان ذاته، “استمرار النهج العزيزي ومُواصلة مسيرة البناء والإصلاح”.هذا الحِراك النشط الذي تربطه شبكة من المصالح المعقدة من شأنه أن يرجح ملف غزواني على منافسه الرئيسي. ولاينبغي أن نهمل علاقة الجنرال المتقاعد بالمؤسسة العسكرية، وبالمصالح الدولية التي تُركّز على المقاربة الأمنية في تعاملها مع الأزمات التي تشهدها منطقة الساحل، كلها عوامل ترجح إمكانية فوز ولد الغزواني في الشوط الأول من السباق الرئاسي .
ورغم أهمية هذه المعطيات السالفة الذكر، فإن محاولة غزواني في معظم خرجاته الإعلامية الابتعاد عن الوصاية العزيزية أصبح أمراً مُقلقاً للأوساط المقربة من ولد عبدعزيز، يبدو هذا واضحاً من أحاديث الغرف المغلقة التي سُربت للعلن. فعزيز الذي يبحث عن من يُؤمن له مخرجاًسليماً من الكثير من الملفات الشائكة قد يطضر للتّخلي عن رفيق دربه من خلال إستراتيجة تدفع ببيرام ولد اعبيدي إلى شوط ثانٍ ليتمكن من الحصول على تعهدات مكتوبة، تُؤمن له الخروج من عشريته التي أثارت ومازالت تُثير الكثير من التّساؤلات. ولد الغزواني بهذا المنطق يُواجه مشكلة ثقة في أوساط معينة، قد تؤثر على دعمه من النظام ومن اللوبيات النافذة فيه، وقد تجعل منه مجرد خيار من خيارات ولد عبد العزيز المتعددة، التي يمكنه التخلي عنها في الوقت الذي يراه مناسباً لذلك.
ولد بوبكر رصيدٌ من العلاقات وآلة إعلامية:
يعتمد ولد ببكر على رصيده العلائقي الذي جعله يَحظى بدعم جنرالات نافذين وشخصيات وازنة تربطه بها مصالح مشتركة منذ أن كان رئيساً للوزراء، فصراع الرجلين بهذا المفهوم لايعدو كونه تنافساً داخل أجهزة الدولة العميقة، وقد يكون ولدببكر ضمن خيارات عزيز ليظهر بمظهر الرجل الذي احترم الدستور وسلَّم السلطة للمدنيين، فقد عوّدنا ولد عبد العزيز خلال فترة حكمه على اللعب بعدة أوراق غالباً ما تُربك المتابعين للشأن الموريتاني الذي أصبح عصياً على التّوقع بسبب تزاحم العوامل المؤثرة فيه.
القوة الناعمة التي يمتلكها الإصلاحيون والقدرة على التنظيم ستشكلان عاملاً مهماً في تفوّق ولد ببكر خصوصاً في النطاق الحضري حيث ترتفع مُعدلات الوعي، وفي أوساط الموريتانيين في الخارج، لكن ولدببكر ورغم تجربته المهمة وكفاءته المهنية، فإن إرثه السياسي مع نظام معاوية سيؤثر بشكل أو بآخر على تسويق ملفه لاسيما بين الزنوج، وفي أوساط بعض الإسلاميين الذين عانوا في عهد ولد الطايع، وفي هذا الإطار يمكننا تفسير الاستقالات التي شهدها حزب تواصل بعد دعمه لولد بوبكر.
مُتغيّراتٌ قد تُربك المَشهد:
ثمة معطيات لا تخضع للمنطق السياسي ولا حتى الإستراتيجي، يتعلق الأمرهنا بحركات الكتل المغاضبة في أماكن الثقل الانتخابي والتي يمكن أن تغادر الجبهة الغزوانية في لحظات حرجة، وفي المقابل ثمة ما يمكننا تسميتها بالكتل التسويقة التي ستعلن في البداية انضمامها لولد ببكر في خطوة تكتيكية هدفها الحصول على أكبر امتيازات ممكنة من خلال مزاد يُغازل حزب الدولة في الأساس، والحقيقة أن هذا النوع من الكتل شهد انتشاراً واسعاً في موريتانيا خلال العشرية الأخيرة سواءً في أوساط النخبة أوغيرها، بل إنه أصبح البديل الإستراتيجي للأحزاب السياسية التي عجز معظمها عن القيام بدوره.
يبقى حسم الغَلبة بين المتنافسين بيد ولد عبد العزيز الذي يتأرجح –”الآن وليس غداً”- بين عدم الثقة في المدنيين والخوف من تغيير غزواني لموقفه منه بعد وصوله للسلطة، هذا التّأرجح عكسته جملة من التطوارت منها السماح للعكسر بالتصويت مع المدنيين، وعدم تزكية عُمد ومستشاري مقاطعة “الظَّهَرْ” المحسوبة على عزيز لولد الغزواني. ضياع بوصلة مايُسمى بالأغلبية الذي خطّط له عزيز سيزيد الأمر غموضاً، خصوصاً في الأوساط البعيدة من مراكز القرار، قديعتقد البعض أن مطالبة ولد عبد العزيز لرجال الأعمال بالتبرع لحملة غزواني يعني أنه حسم أمره، لكن الحقيقة هي أن عزيز يمارس عادةً قديمة تعوّدها منذ انتخابات 2009 حين كلَّف ضباطاً بتوزيع أموال على سكان بعض القرى النائية في مناطق مختلفة موريتانيا، فاحتكار السيولة وجمعها وتوزيعها بتلك الطرق سجعل منه رقماً صعباً في معادلة الحسم .
وبغض النظر عن من سيفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فإن ولد عبد العزيز استطاع أن يقصي المعارضة التقليلدية من المشهد، ويمكن أن يكون هذا أحد الأسباب وراء نوعية الترشحات الحالية التي ستمنح نتائجها في كل الأحوال منصب رئيس الدولة وزعيم المعارضة الديمقراطية لأغلبية عزيز، في توزيع للدورين العسكري والمدني داخل النظام نفسه، وبشكل يضمن العودة لولد عبد العزيز ونهاية ما يُسمى بالمعارضة الراديكالية.