عندما تقلع الطائرة / محمد عبد الله البصيري
2019رئاسيات تشرت هذه الخاطرة بالفرنسية في عدة مواقع فطلب مني بعض الاصدقاء ترجمتها إلى العربية إسهاما في ترسيخ الوعي المدني الانتخابي. حاولت الترجمة في شكل عجالة اعتمدت فيها أحيانا على فقرات من مقال قديم نشرته في جريدة الإصلاح.
بعد أيام ستنتخب أيها الشعب الموريتاني رئيسا جديدا للجمهورية.. وحين ينقشع غبار المعركة الانتخابية وتتبدد غيوم الحماس وتختفي بروق الوعود الخلابة في آفاق الواقع.. حين يجف الحبر على وجنة الصحافة وتسّاقط من جدران الذاكرة ملصقات الشعارات وصور المرشحين.. بل عندما تنسحب كتائب العاطفة من أقاليم صحوة العقل.. وتجر حامية الضغط القبلي والاجتماعي أذيال الخيبة خلف أسوار قلعة الضمير… تكتشف أيها الشعب الكريم أنك أقدمت على مسؤولية من أعظم المسؤوليات …لأنك وانت تؤدي واجبك المدني البسيط منحت صوتك لأحد المرشحين لتُرجح كفة فوزه بسلطة التحكم في مصير شعب بأكمله ..في رقابه ودمائه وأمواله ودينه وتعليمه وعلاجه وغير ذلك…. وتلك لعمري مسؤولية جسيمة قد تماثل ما يطلق عليه القانون المسؤولية التقصيرية التي تلزم الشخص بجبر الضرر الذي يُلحِقه تصرُّفه بالغير.. سواء كان المتضرر شخصا واحدا أو أزيد من أربعة ملايين موريتاني.
إن مسؤولية التصويت لرئيس الجمهورية بمثابة اختيار ملاح طائرة يركبها جميع الموريتانيين في رحلة جوية طويلة بليلة ليلاء تكتنفها من الخارج عواصف العولمة ومطبات أطماع الإمبريالية والنفوذ الجيوسياسي ومن الداخل غيوم التخلف والفقر وانحسار الوعي المدني التي تحجب آفاق حب الوطن وتمطر المصالح الشخصية بل تزجي سحاب انتماءات ضيقة قد تعصف ريحا صرصرا لا تبقي ولا تذر. وإن وجه الشبه بين رئيس الجمهورية وملاح الطائرة لجلي في مختلف المجالات.. فمن حيث عبء المسؤولية كل من القائدين مسؤول عن أمن رفقته ورفاهها وسعادتها طيلة السفر ووصولها إلى بر الأمان : الطيار عن ركابه والرئيس عن كل أفراد شعبه. أما من حيث المؤهلات فتشترط في كل منهما الكفاءة والنزاهة والتجربة والخبرة العالية.. الني هي معايير لا غنى عن مراعاتها وقت اختيار كل منهما، بحيث لا يمكننا مطلقا، لو سنحت لنا فرصة اختيار ملاّح طائرة نسافر على متنها ، كما هي متاحة لنا هذه الأيام في انتخاب رئيس الجمهورية، أن نصوت لطيار لا تتوفر فيه هذه المواصفات، حتى لو كان قريبا أو صديقا أو ابن عم أو ابن جنس، وحتى لو تأكدنا أنه سيمنحنا مقعدا وفيرا في الدرجة الأولى أو سيحجز لنا مكانا متميزا في فريق قمرة القيادة.. ولسنا بحاجة في هذه الحالة إلى وعي مدني راسخ ولا إلى شعور عميق بالوطنية، لكي نلتزم بهذه المعايير، فغريزة حب البقاء سترْدعنا بشكل لا إرادي وفوري لأن اختفاء الطائرة من شاشة رادار الحياة يصبح مؤكدا لتتحطم حتما في صحراء عدم الكفاءة وتضاريس غياب المسؤولية.
ومما يجعل قيادة الدول شبيهة بقيادة الطائرات، أن على كل من الرئيس و الطيار أن يراقب دوما من سماء برجه العاجي كل اغبرار في الآفاق أو تقلبات في الطقس المناخي والسياسي، دون أن يصرف النظر لحظة عن الأرض وواقعها المعيش، حتى لا تصطدم سلطته المطلقة بتعليمات تعكر صفو الرحلة صادرة عن برج المراقبة أوعن مجلس الشيوخ أو أعضاء البرلمان…من أوجه الشبه كذلك أنه بعد كل رحلة طيران طويلة ومضنية يعود طاقم الطائرة ليستريح بعد أن سلم مقاليد قمرة القيادة إلى طاقم جديد.. ذلك ما يسمى في معجم الديمقراطية التناوب السلمي على السلطة.
هكذا إذن أيها الشعب الموريتاني العزيز، أيها الناخبون والناخبات، عندما تتحرك الطائرة على المدرج، أي حين يدخل أحدكم في قبة التصويت ويخلو إلى ربه وإلى ضميره، اعلموا أنكم بدأتم السفر جوا إلى جزر المستقل….
أيها السادة والسيدات رقم الرحلة : م ر 2019، التريخ 22 يوليو.. مدة التحليق : خمسة آلاف ساعة … أما الوجهة فأنتم من يحددها بالإدلاء بأصواتكم للطيار الأفضل… أيها السادة والسيدات : الإقلاع بعد لحظات…فشدوا حزام الأمانة وحب الوطن… سترة النجاة تحت مقعد الضمير وبالتحديد في صناديق الاقتراع… درجة الحرارة على الأرض مرتفعة بسبب تغيرات الطقس السياسي وعواصف الاحتقان الاجتماعي.. وحالة الطقس العالمي في اضطرب شديد : غبار الموارد الأولوية يحجب الأفق من الشمال .. وعواصف الديون تهب من الغرب .. والرؤية في المشرق ضبابية قاتمة .. وغيوم التخلف تلبد سماء الجنوب…
هكذا تحزم أمتعة الشعوب وتباع بالمزاد تذكرات الأمم .. وتحجز شركات الطيران السياسي مقاعدها عبر وكلات الولاء.. فاحرص أيها الناخب على ان لا تكون طائرتك من المراكب القديمة ذات المحرك الواحد ولا من المطاردات النفاذة الموجهة بأشعة ( الأليزى ) ولا من نوع بوينك 337 ماكس المحظور عليها الطيران منذ فترة.. يجب أن يكون رًكُوب الأمة من طراز (لا تنفذون إلا بسلطان) مصنوع بأعين الضمير ومركب بأيد موريتانية نظيفة ومزود بوقود الإيمان والمسؤولية وحب الوطن .. لأن الركاب زهاء أربعة ملايين من البشر يحمل كل واحد جواز سفر الديمقراطية وتأشيرة الانتظار الطويل .. وحقيبة صغيرة جمع فيها دمه وعرضه وماله ودينه .. وصفحة من تاريخ أمه ..
أنت إذن أيها الشعب الأبي راحل إلى جزر المستقبل .. و صوتك الانتخابي وحده هو الذي يحدد الوجهة. فهل تريدها نزهة على شواطئ الغيب تتعرض لعواصف اليأس وأمواج الرجاء؟ أم تريد رحلة آمنة إلى منتزهات الأمل حيث تتفيأ ظلال النعيم وتتمتع بدف ء شمس العدالة والحرية وتتتبع مطمئنا مساقط غيث التنمية منتجعا مراتع الرفاهية والازدهار .. هل أعددت إجراءات السفر وأنت تحس عبء المسؤولية وقت اختيار الطيار الجديد ؟ هل اخترت من يحسن القيادة ويتقن رقابة الأجهزة الفنية والتوجه بها شطر قبلة الأمان والتنمية الشاملة… هل عرفت كيف تستخدم سترة النجاة وكيف تختار من يحسن الهبوط الاضطراري بمظلات الاستقالة في الوقت المناسب
شدوا الأحزمة فقد أقلعت الطائرة … نعيذكم بالله من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل .. وفقنا الله لما يخدم مصلحة هذه الأمة.. وسبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقررين .
201 تعليقات