سنظل أحرارا و لو في وادي النسيان/ ذاكو وينهو
و أنا في عمق الوادي الكبير ، شمال شرق القرية رأيت الطبيعة النقية في أبهى صورها و أمتع تجلياتها …مملكة الحرية و متنفس الكائنات وهي ترسم ببراءة و براعة لوحة الحياة الجميلة ، لوحة التعايش و السلام …نوق صفروات يقودها قعود أهدل المشفر و الحاجبين تتسلق بثقة متاريس الرمل الفستقي المتسلل بين أشجار الطلح و الأراك…و الهادية تقود القاطرة البقرية بهدوء و صمت و ثبات …و الأعنز تطارد الوهم في خفة و جشع ، و كائنات صغيرة ، حشرات وعصافير و نمل تخوض المعركة بهدوء ، في إقبال و إدبار و التزام تام بسيادة كل طرف على حوزته و مرتزقه …سرحت في رحلة تدبر و تأمل و عشت لحظات متاع فريدة في هذا المشهد النقي الذي لم تلوثه أطماع الإنسان ، و لا أحقاد الإنسان ، ولا صراع الإنسان و الإنسان من أجل المال و السلطان …
قال الصرد للهديل : عجبت لصمود ظاهرة تأليه أهل هذه الديار للسلطان ، لم تغسلها سحائب الوعي الزائف ، و لا مزاعم تطور أنماط الحكم في الحقب المتتالية ….
نزع الهديل سيرا يثبت نظارتيه العتيقتين على عينيه الغائرتين و قال أي بني صرد حدثني جدي عن أبيه قال : عندما تنتزع الإمارة بالسلاح ، تصبح سنة يسير عليها القوم كلما خطر لهم خاطر في حب الإمارة و عشق التسلط ، وصارت دولة بين أمراء السلاح ، أنا – يا أهل وادينا الجميل – لا أعيب العسكر ، فهم حماة البلد ، ورعاة السلم ، و هل كان الصحابة إلا جنودا صادقين ثابتين في سوح المعارك بين الحق و الباطل ؟؟؟ نجم العسكري يظل شريفا إلا إذا هوى أو هوى ، و ليس للعامة كلما استبدل العسكر فريقا بفريق إلا المباركة و التأييد ، حتى إذا اقشعر جلد السياسة و صوح نبتها و رعي هشيم المبادئ و ضاقت الحال بالبلاد و العباد أسدل القوم الستار و اعتلوا خشبة المسرح من جديد و جعلوا على وجوههم مسوحا و دهانا و غيروا الأقنعة و الملابس و مثلوا لعبة جديدة تحت شعار خلاص أو إنقاذ ، وقالوا للناس دونكم هذا القائد القديم انتهت صلاحيته فهو الناهب الفاشل و الظالم المستبد خذوه فغلوه و أشبعوه عيبا و شماتة …. فتنطلق المظاهرات و المبادرات الداعمة للفريق الجديد و قائده السعيد ، لا يدرك الشعب الغبي أن فريق اليوم هو فريق الأمس ناقص 1 …
لا يدركون أن المزاح فرد من فريق وفر له الحماية و الأمن و القوة و الدعم لممارسة السلطة …قالت نملة عجوز تسللت منهكة من جحرها : و كل سلطان مزاح لم يكن وحيد ا في سلطانه ، كان يستمد قوته من المحيطين به المطيحين به ، من مدير أمنه ، من قائد قواته ، من قائد حرسه و حراسته ، من قائد دركه هؤلاء جميعا شركاء في حقبته ، صالحها و فاسدها ، خيرها و شرها ، في كل ما حصل فيها من خطإ و صواب ، و عدل وجور ، و أمن و خوف ، السلطان لا يقف وحده و لا يمارس سلطته إلا بحماية و سند من فريق شريك له في السلطة …قواد القائد هم يده التي يبطش بها ، و العين التي يبصر بها و الرجل التي يمشي عليها و اللسان الذي يخطب به ، هم معه مشاركة أو مباركة أو إقرارا أو صمتا وتعلمون العلاقة بين قول رسول الله صلى الله عليه و سلم و فعله و إقراره و سكوته على ما حصل أمامه ….
و لأن الإنجاز فعل مشترك فليس معنى تغيير رأس النظام أن تنشق الأرض عن جبل عرفة ليقف عليه شركاء السلطان فتتحات ذنوبهم ، أو أن ينبجس من الرمل ماء زمزم يغتسلون به ويشربونه لينظفهم من مثالب السلطان و أوساخه ……
رفع النسر الجريح رأسه و جعل مرفقه على مخدة من جلود الضأن و قال : أيها القوم ! يا سكان هذا الوادي الأمناء ! أنا لست غبيا حتى أومن أن للجائع و المعتر و الجاهل إرادة و هم عبيد العوز و أرقاء المتنفذين ، إرادة هؤلاء وليدة نكاح فاسد بين فلس و بندقية ، بتواطئ من قوى رجعية تعودت استغلال الشعوب بمواصلة صلاة الخوف و الاسترزاق في محاريب السلاطين …
قالت النملة الحدباء : أيها الناس لا يخدعنكم السلطان و جنوده فهم فريق كفريق كرة القدم عمله متكامل، هناك الهداف و لاعب الوسط و المدافع و حارس المرمى ، و إنجاز كل واحد من هؤلاء مرتبط بالآخر ، فلا بد للهداف من مراوغ ماهر يصنع له ظرف التسجيل ، و لابد لحارس المرمى من مدافع مستميت يساعد في صد الكرة عن الشباك ، و هكذا فإن الهدف الذي يسجله عمرو يحسب للفريق كله و الهدف الذي يدخل في مرمى زيد يسجل على الفريق كله ، و يكون النصر أو الهزيمة للفريق كله أو عليه …
نزل الهدهد في منتصف المجلس و قال : أراكم نسيتم وزراء السلاطين و هم في الغالب دمى ضعيفة لشخصيات كرتونية تحركها أصابع السلطان و أعوانه ، عيانا و تارة من وراء حجاب….
قال الصرد و الهديل : أيها النسر أشر علينا في من نوليه أمر هذا الوادي الجميل ليبقى في نقائه و طهره و صفائه ؟؟؟
قال النسر : يا قوم على سكان هذا الوادي أن يسلكوا فجا غير فج جارنا الإنسان ، سيبقى حاكمنا في حجمه الطبيعي مخلوقا لا إلها ، لا يطرب لمديح الرعية و لا يجزع لذمها ، سنخالف رعية السلطان الإنسان التي تواصل الغناء بأمجاده الزائفة و تستقبله كلما ذهب لقضاء حاجة الإنسان بصفوف من الرجال و النساء و الأطفال ، و الخيل و الجمال ، و أطنان القصائد و فنون المقال ، ما دام يجلس على عرشه يقلب شؤون البلاد من حال إلى حال ، وتظل نخبها تتلقف خطاباته و تسطر عليها الحواشي و الطرر شرحا و إطراء و تضخيما لأنها لم تتجاوز مستوى دواجن النهم و النفاق …
أما نحن فسنظل أحرارا و لو في وادي النسيان لأنه خير من حكم الإنسان ، و أطماع الإنسان ، و صراع الإنسان مع الإنسان من أجل المال و السلطان…