دقات استئذان!!!

الحروف الجميلة تولد فجأة دون آلام وحم أو مخاض…هي سر ينفلت دون إذن حين تقدح لحظة الخلق على الزناد….الحرف يولد بلا مشيمة…ينفلت مكتمل الخلق سويا يتنفس كبرياءه ويتحسس معشوقه…
حين تكون النفس الجميلة كلفة حقا…مسكونة بوجع الكتابة….فان الحروف المتمردة على السجود في المعبد والتغزل الزائف بحقارة السدنة…تعلن كفرها بفلسفة السير على خطا رائدة القطيع… المقتات من رجيع المحاكاة والتنفس من الفم لأنها مزكومة برائحة عفن التكرار…الحرف الجميل مع سحره وبريقه وروعته وهدوئه جارف أحيانا…مكتسح …محطم لأنه يلغي غيره… لا يثير غبارا…ولا يمطر الدنيا بغازات سامة…لكنه يكفر بما سواه…هو حائم في الفضاءات الجميلة ..باحث عن وطن يرفع فيه راياته ويرشه بالرياحين والورود والعطور…عن أرض يولد فيها بلا مشيمة…بلا هوية سوى الجمال…. الجمال سر وجوده…ولكن أكثر الناس لا يعلمون……
مازالت قناعتي أن الكلمة الجميلة فن..وأنها تبقى بكرا حتى بعد الوطء…أعني بالكلمة التي تكتبك لا التي تكتبها…الكلمة الفاعل….لذلك من أروع ما لفت انتباهي في الشعر القديم قول امرئ القيس :
وقد أغتدي والطير في وكناتها@@بمنجرد قيد الأوابد هيكل
مكر مفر مقبل مدبر معا @@كجلمود صخر حطه السيل من عل
لن أقف عند اختيار الطير وهي تعاني العشى الليلي لذلك تحس مبكرا بتباشير الفجر…فالنهار ظرفها الوحيد لتغدو خماصا وتروح شباعا…..لن أقف عند الجواد وجمعه المتناقضات فهو ضخم وسريع….ليس هذا ما أريد ، أريد البيت الثاني ، هذا التقابل هذا التضاد…هذا التنافر الذي التحف كساء انسجام راقيا وجميلا…غابت أداة العطف…مكر مفر مقبل مدبر لم يكتف بالمجاورة دون حاجز ، أكد ب (معا) وتجسيدا للصورة شبه بجلمود صخر حطه السيل من عل…كأنه يعي قانون الجاذبية…وأن السقوط الحر مدفوعا بالماء وهو أحد الأعميين يكون أشد حسب ثقل الجسم…والجبل فيه رعونة ونتوءات معنى ذلك أن هذا الجلمود يتعرض لردات الفعل (نزولا وصعودا) عند التعثر بأنف الجبل…هل هناك فيديو اليوم يستطيع أن يضيف أكثر مما صور امرؤ القيس بهذه اللغة الشعرية التي غاب فيها وتركها تتحدث بلا وسيط..؟؟؟
عندما أقرأ لأستاذي ناجي محمد الإمام أجدني أمام ظاهرة لغوية فريدة في أيام الناس هذه…تنتزع مني هذه اللغة الرائعة سهوا غير مبطل للقراءة..بل لا يحتاج سجودا…لغة ناجي لغة ساترة….لاحظت أن صاحبنا يتحرى المرور بأودية البادية اللغوية ليصطحب معه صبايا محتشمات لا في تخلف….كاسيات لا في تشدد زائف….لم يحتجن إلى زينة مكتسبة تفضحها الشمس والغبار…وحك العين والوجنتين…فاتنات لا في تبرج وتبذل..ناجي ينتشلهن وهن ضحايا جهل بسطاء المتطفلين اليوم الذين يكتبون بحبر جاف وينشدون بأفواه درداء…لا يلجئه ذلك إلى الإغراب…منا من يستر عجزه بلغة القاموس…لغة القاموس لا محل لها (في) الإعراب….هي إما تعويضا عن خلل بنيوي في القدرة على التعبير البسيط والجميل….وإما كبرا و(تصومعا) في أديرة وثنية التنرجس والتعالي إلى أسفل…
تراها “تسدر” في واحة النص ، في يدها مسواك أراك أكلت نصفه ، وعلى شفتيها تتبعثر أسلاك بيضاء في فوضى ساحرة ، هي حطام ما لزق بهما شاهدا على استياك عبثي طفولي فاتن…..هذا هو ناجي محمد الإمام الذي حرص على غرس قدميه حافتين ذات مرة في الحصباء الرخوة…بين الرمل والبحر…أدرك ان النعل يقي وخز الشوك وحر الرمضاء…لكنه يحرم لذة الارتداد إلى رحم الأم والشعور بالحنان والدفء والرحمة….
المبدع الحق هو من يحافظ على دراعته وسرواله و(اكشاطه) لكنه يبقى أنيقا تنحني له رقاب “المتموضيين” الصغار الذين يسوون تسريحاتهم على أبواب الالمنيوم…