اسويدن …./ بقلم الكاتب “ذاكو وينهو”
لطه حسين في حديثه عن صباه و حياة الأطفال في القرية قصة طريفة تظهر تشابه تفكير و سلوك الأطفال في شتى البقاع ، قصة الأطفال و الحفرة و قائدهم الذي كان يرغمهم على أن يصرحوا أنهم رأوا ما لم يروا توقيا لضربه …
و نحن عند معلم القرآن في البادية كان كبيرنا يأمرنا بقبض اليدين و جعلهما على عيوننا لنرى (اقفافير اصنادره ) في المدينة ، كنا جميعا نصرح أننا نرى ما زعم كبيرنا أنه رآه لننجو من عقابه …ويل للأطفال إذا أحس أحدهم بتفقوه العضلي عليهم ، ويل لهم إن أيقن أنهم يخافونه …
و مرة أمنا في التراويح مراهق و أحضرنا طفلا للاحتياط و إصلاح ما قد يتشابه على إمامنا أثناء القراءة ، فأمرها صعب ، لا حظنا أن الإمام يشيله إمرزي أحيانا لكن الطفل لا يصوبه ، و لما استخبرنا الطفل أقر أن الإمام توعده إن هو صوب ما يفسد بالعقاب الأليم… ذكرت خوفي من كبيرنا و إقرارنا تحت الإكراه أننا نرى ما لم نر …
زرت المدرسة رقم 1 في ألاك ، و وقفت في القاعة التي درست فيها العام الدراسي 1974-1975 في CM2 ، كان معلمي تيام صمبا من أفضل المعلمين ، تميز بالهدوء يكثر النظر إلى أسفل ، يسكنه طبع حياء غريب ، في نبرته الصوتية بحة تجعلها شبه مهموسة ، و كان مؤمنا بعمله متفانيا فيه مخلصا لتلاميذه محبا لهم ، يضطر أحيانا لاستعمال عصاه و سوطه نظرا لخطورة تلك المرحلة من عمر التلميذ الدراسي ، مرحلة تحضير مسابقة دخول السنة الأولى من التعليم الإعدادي و الحصول على شهادة الدروس الابتدائية ، نجوت من سياط الرجل لأني كنت طفلا حديث عهد بالبادية و ما زالت آثار عصا سيلا إبراهيما بادية على يدي من السنة الماضية CM1 لذلك انشغلت بدروسي ، اكتسبت ثقة الإدارة و المعلمين فعينت رئيس الفصل ، و كانت وقتها ميزة المجتهدين المأمونين ، تسلمت مفاتيح مخازن المدرسة التي تحوي الأثاث المدرسي من كتب و أقلام و طباشير…
في الإعدادية اجتمع التلاميذ القادمون من مختلف أنحاء الولاية و أصبح لكل مادة أستاذ ، و اختفت العصي و السياط ، و استفاد التلاميذ من حرية و أمان ، فتسلل الوهن إلى بعضهم و استشرت كارثة انحطاط المستويات ، وشعر المتهاونون بالضيق ، و عذبهم الجلد المتواصل بالعلامات السيئة أمام الزميلات ، فقرروا الهجرة سرا إلى أرض السودان …
إنهم فتية آمنوا بضعفهم ، فطلقوا الدراسة ، و اختفت آثارهم من المدينة ، فلم تعد تسمع لهم ركزا…كانوا أربعة خامسهم اسويدن …
استوطن اسويدن القرية صغيرا ، يزعم أنه ولد في الخارج لكن رحلة التيه ألقته في هذا الحي البدوي الحالم بين الكثبان و أودية الطلح و الأراك و القتاد ، اشتهر بالقدرة على العدو على الحيطان نجح في مسابقة التهام خمس خبزات في ثوان دون استعانة بماء في ذكرى الاستقلال ، كان يقول إن أربعة أتعبوه : أفعال القلوب ، و(ألم نهلك الأولين) و العشرة المبشرون بالجنة ، و الندى …
تميز بمروياته و قدرته الفائقة على الاختلاق و السباحة بمهارة و اقتدار في بحار الوضع و الخيال ، كان يعوض ما فاته من محاسن الدراسة و الحياة السوية بأقاصيصه في حلق أصحابه ، يتدفق الكذب ماتعا محيرا على لسانه ، يصدقونه و يحسدونه و هم الذين لم تتح لهم بعد مقاييس عقلية و منطقية يميزون بها بين الحقيقة و الخيال…
ابتهجت بائعات (كضه و امبورو صوص و بني و امبطاص) برحيل عصابة (جيرو) …
التي يستبيحون بها مبيعاتهن ، يستحلونها بتلك الصيحة يطلقها كبيرهم (موسى ) (جيرو …جيرو) وهي الإشارة الخضراء للانقضاض على طاسات البائعات يلتهمون ما عليها بنهم ، و يفرغون الباقي في جيوبهم و هم يفرون كالكلاب المذعورة ، و النسوة ضحايا النهب يركضن خلفهم في يأس مستنجدات بتجار السوق ….
هاجر اسويدن إلى متم لكنه ظهر مشروع تاجر فاشل ، انتقل إلى انواكشوط و ذاب في حياة العاصمة وخبر أزقتها و شوارعها و أحياءها الشعبية …كان من جمهور سينما الأنصار و سينما الفتح ، تخصص في اختطاف تذاكر المبتدئين من رواد هذه الساحات ، و في عطل نهاية الأسبوع يلج قاعة عرض سينماء الواحة (وازيس) قرب البنك الليبي …و يزعم أنها خاصة بطبقة النبلاء و الميسورين…
لما علم به المختار ولد داداه دعاه و قضى يوما في ضيافته مع مريم داداه ، بجلاه و أرياه من آيات الإكرام ما أعجز خياله و أخرس كلماته …
أقام الأخوان الشيخ و سيداتي ولدا آبه حفلة على شرفه و غنيا له في الإذاعة الوطنية …
ذهب إلى مصنع الفضة و رأى المكينة التي تصنعها …
ثم ذهب إلى دار الحيوانات المحبوسة و رأى أنواع “لبخانيس” رأى “شرتات و عر و بعض التماسيح ” …
تعرف على كثير من الأصدقاء ، لكن صداقاته كانت أكثر من النصرانيات و الكوريات و اللبنانيات لأنه مدحوس من البيظانيات اللائي يذكرنه بأهل لخيام ، زار البحر وقت الغروب فرأى بأم عينه سقوط الشمس في (لبحر لخظر) ، و كيف اشتد غليان مياهه ، و كيف كانت الكوريات يأتين ب(تباصيل) الأرز و السمك و يغرفن عليه ماء البحر فينضج في الحال ، و حدثنا اسويدن أيضا عن شرابه ، كان لا يشرب إلا الخمر و يستريح إن ملها مع كازيل …و كان لا يأكل إلا امبور بير المغموس في نسله …
كان لعابنا يسيل مدرارا حين يصل هذه الفقرة من سرد عجائب رحلته و نحن نستدر خياله و هو يهمي بلا انقطاع……
و لأن الله قد غضب عليه بلعنة اسمها الجمال ، فكان يتسبب في زحمة مرور لتجمع الناس و تفرجهم على حسنه ، اضطر إلى التنكر في اللثام لكنه زاده جمالا و فتنة ، لو رأيتم صفوف النساء – يقول اسويدن– أمام الإذاعة و قرب فندق مرحبا و دار البريد و طب مونزي يمددن أعناقهن ليرينني لتذكرتم صفوف التلاميذ امام أجبابه و عيش غرب بيت الكفالة ينتظرون قصعات الغداء…
و من المكاره التي جناها عليه جماله تعرضه للاختطاف أيام مؤتمر التوضيح لحزب الشعب ، فما كاد يصل الباب الواسع لدار الشباب حتى توقفت سيارة R 16 ونزلت منها ثلاث نصرانيات و (وسرن) فيه و سحبنه إلى السيارة التي غابت في الغبار حتى وصلت شاطئ المحيط ، وهناك أنزلنه و اقتدنه إلى باخرة عظيمة و انطلقت بسرعة و لم تتوقف إلا في غابة تقع بين جزيرتين تحت إمرة (عزبة لبحر) فاستقبلته و غابا في عناق طويل ، و ظل هناك في قصف متواصل مدة أسبوع…
في طريق عودة اسويدن فضل ركوب طائرة (كريه) ، لكنها وهي تعوم بين السحاب غاصت رجلاها في رمال (لمزون) و تعطلت عن الحركة ، فنزل السائق و أمر الركاب بالنزول ل(يبوسوها) ، لكنها تمنعت حتى أحضروا لها (مانيفل) لاندروفير ، و ذهب صديقنا لبعض حاجته و كانوا في السماء الرابعة فرأى ملائكة يدقون المسامير في صحن السماء و يسوقون المزن إليها ليسيل ماؤها من الثقوب فينزل المطر و قد ساعدهم بنوش مزنة شردت عن قطيع السحاب .