في ظلال الحروف/ المختار السالم
كانت تقولُ لي إنَّ قلبها من الرمادِ. وأنا أقسمُ لها أنَّ ذاكَ الرمادَ، الذي يشكلُ قلبها، أقوى من الفولاذِ، ويُحيِّرني كيفَ يتشكل قلبُ امرأةٍ من رمادٍ دون حرائق ودخان.. الحيرة مركب سريع الغرق!
إنها امرأة تَربَّتْ بعنايةِ العَسَلِ والزبدةِ و”الحلبةِ الزرقَاءِ” وإذلال قلوبِ من يتذكرونَ الأحوال الجوية فقط في وجوهِ الأحبَّةِ؛ إذ يتوردُ خدٌّ، ويعلو الجبينَ صدٌّ، وينفر الإعصار دمعاً، وتتقد الضحكةُ شَمْعا.. فلا يبقى بزجاجةِ الذاكرةِ المكسورةِ غيرَ القولِ “سَمْعاً”.. وغداً يُحصدُ كل وادٍ زرعاً.
نظرَتْ ملياًّ أناملي الثملةَ منْ وتَـرِ “نَشَّفْتُ” عصبه وشذَّبتُ عودهُ بيدي. فعلاً، كانَ كيانهُ الماديُّ بدائيًّا؛ ومضحكاً، ولكن روحَهُ النغميةَ جعلتُهُ حقلَ أنغامٍ يهزُّ سَنابلَ السَّامعينَ.
سألتني: أيمكنُكَ عزفُ مِشْيَةِ امرأةٍ بخلخالٍ واحدٍ؟
كانت التقاليدُ تقضي بأن تَـتَـقَـلَّدَ السَّيِّدةُ خلخالين أو أربعة؛ فيما تُوَّحِدُ الآنسةُ.. ليضمنَ المُجتمعُ حتى وأدَ نبْضِ خطاها، فلا يعلمَ منها إلاًّ ما تكشفُ الغفلةُ.
إنَّ المكان المرتفع يجعلني أكثرَ وعيا بما أريدُ.. الروابي، الهضاب، التلالُ.. ملهمتي الأولى، وهكذا اخترتُ أنْ يكون للحدثِ طابعا خاصا، فعلى هضبة عالية، يمكنني بارتياح رؤية القطعان المتراميةِ بالتلال، والخيام المنتصبة في الأرجاء، ورصد القوافل، التي تشبه المسبحة حول المعصمِ.
على تلك الربوةِ؛ عزفتُ لها تلكَ القطعةَ؛ أو المشيةَ، في مقامٍ لم يخطر على قلبِها الرَّماديِّ.
كانَ مقامًا يُبشِّرُ بالأمْداءِ زمنَ الغزلِ خارجَ الرحلةِ البطوطية..
ومعَ الأصيلِ، جعَلْتُ طريقَ العودةِ محفوفا بالألحانِ، عزفت كل شيء مررنا به.. رقصة النملِ في قريته، شقلبة جرو سائبٍ، وخفقة راكب يسابق الظلامَ.
أسرعنا نحوَ “حلبة المغرب”. نكهةُ اللبن المحلوب على الحجر الساخنِ لا تقاوم.
وألـيَـلَ اللَّيلُ.. فالتحقَ بنا المزيدُ من سُمار الحيِّ في ليلةٍ متمردة على طقس المفازةِ، حيث يندُر أن يجمع السمر بين المطر والقمر والوتر والحور.
لقد استوعبتْ ما بأناملي من رمادٍ، فأشاحت بوجهها “التَّبَّانيِّ” نحوَ كوكبةٍ بعيدةٍ.. المرأة في صدودها آسرةً، تماماً كالضوءِ في انحرافهِ.
أخبرتني “ذاتَ مرعى”، أنها ترغبُ بالتخليِّ عن اسمِها، وأنها تفضلُ أن تكونَ نباتا من شدةِ عشقها للخضرةِ، وتعتقدُ أنَّ النباتَ أسعدُ من البشر.
وأنا قلت لها إن النباتَ أول ضحية للإنسانِ. تلك التفاحة التي قطفها أبونا آدم كلفتنا غاباتٍ وبساتين. وأشياء أخرى كالمهرِ.
ثمَّ دلَّهَتِ الشاعرَ ليمدحَ؛ فتعثـرَ واختلطَ على عقلهِ رميمُ اللحظةِ بينَ ظلالِ البَنَاتِ والنَّبَاتِ، وباعتباره “لوَّانًا” و”دافنشيا”، عفيَّ الشاربِ والدارِ بينِ القاماتِ المغايرةِ حين ينحسرُ عنها الظلُّ، أرادَ، وبإدراكٍ حنيفٍ، أن يخْضرَّ الانتظارُ كصوتِ القصيدِةِ.. رويداً رويداً يتجذَّرُ عطرُ السلالاتِ بهاويةِ خطاهُ، ليخبتَ للحنينِ لجاماً.
هناك السِّحرُ وهناكَ المعنى. والاثنانِ لا يفشيانِ ومضة الأفولِ بآثارنا، وحدها تلكَ “الخضراء” تحتطبنا.. فننكمشُ بحجمِ “مساحةِ الآخرِ” فيناَ، وليسَ بأجفانٍ تمتصُّ سمرتنا حتى آخر وريد.
غيرت اسمها وصارَ أقلَّ حروفا، واتخذت لقباً غريبا، وفي خطوةٍ ادراماتيكية فرت إلى المدينةِ، لكنهم عثروا عليها في “سينما الواحةِ” خلال مشاهدتها آخر أفلام الأحد.
على المستوى الجسديِّ لم تكنْ مطلقا محل شكٍّ. ولكنَّ التَّـنيْنَ الاجتماعيَّ قضى بعزلها عن الناس، وضعوها داخل قبة بالجانب الشمالِ الشرقيِّ من خيمة جدتها “الصافية”، ولم تكن يوما صافية تلك العجوز التي لم تخلق لتنام طرفةَ عين.
أشيعَ أنَّها مقيدة بالحديد، وفي قول آخر: بحبل من الجلدِ، وراج أيضا أنها معصوبة العينين.. ونقل أحد الرقاةِ أنها فقدت القدرة على الكلامِ؛ وبالطبعِ حملت المسؤولية للجنِ والحسدِ و”الأعمال الشريرة”. فالزرافة الكبريتية لم تكن ليخطئها عود ثقاب حتى تنجو بكل ذلكَ القدر الخُرَافيِّ من “السحر المحمول”.
لأسابيع عشْتُ أحزنَ الناسِ، ولقد طلبْتُ وساطةَ جدتي.. وسأعلم أنَّ فردةَ فعلٍ قد تنشرُ ما تشاءُ على “حبلِ النصبِ”، وأنَّ “حرف جرٍّ” أعزل كفيلٌ بخفضِ اللغة كاملةً.
لقصتها نفاياتٌ نفْسّيةٌ، رأيت في المنامِ حيواناتٍ تتكلم.. قالَ الأبلقُ “الوهمُ السَّلبيُّ سنامُ المنفى”، وردَّ الأرقطُ “يعقوبيتي حُلمٌ، وأيوبيتي حنين”، أما العندليبُ فأوشى بـ”العندلة”، واستيقظتُ حينَ نَطَحني كبشٌ بقرنينِ أخضرينِ!
فتحْتُ عَيْنيَّ لأراها! خشيتُ أن تُطفئَ الدموعُ ابتسامتها. قبلَ أشهر من ذلكَ قضت صاعقة على أفرادِ أسرتها ما عدا والدها الذي ترجاها ألا تحرمه رؤيتها أكثر مما يتحمل.
زوجت والدها بخالتها، وارتحلوا إلى بلد بعيد فانقطعت أخبارهم إلى اليوم.. وبقي الطفلُ يعزفُ للرَّمَادِ وللمرأةِ التي لم يخلق مثلها في الفؤاد.
إنُّهُ، من أجلها، يعرفُ ثلاثينَ مادة كانتْ تصنعُ منها الخلاخل في البلاد.
من صفحة الكاتب على الفيسبوك