“مُضَادٌّ وَطَنِيٌّ” للالْتِهَابَاتِ العِرْقِيَّةِ،الحُقُوقِيَّةِ و الشَّرَائِحيَّةِ/المختار ولد داهى،سفير سابق.
لا أحسب أن مكابرا مدمن المراء يستطيع أن يتجاهل كون الجسم الوطني يعاني اليوم من التهابات عرقية و شرائحية و حقوقية،… تزكم رائحتها الأنوف و تنذر بالتعفن الذي قد يحولها إلي أمراض أكثر استعصاء إذا لم يتم تطهيرها و علاج آثارها العرضية و أسبابها الجذرية بقدر غير قليل من السرعة و الجرأة و الحكمة و التضحية و الصرامة و “القوة في الحق” و القوة في اللين…
و قد ينصرف إلي ذهن البعض أن واجب معالجة هذه الالتهابات يعود للدولة و الحاكم وحده بينما المطلوب المسنود بشواهد التجارب الناجحة في العديد من دول العالم يشير إلي أن معالجة هذه الظواهر هو أولا و قبل كل شيئ عمل النخب الفكرية بالأساس ذلك أن الأمر يتطلب إصلاحا مجتمعيا و لا يكفيه برنامج سياسي و الإصلاح المجتمعي شأن أهل الفكر و النظر لا أهل السياسة و الإدارة.
قد لا يخطئ البعض حين يرجع الانتشار السريع لهذه “الإلتهابات” إلي مناخ “الحرية المفتوحة” الذي تعرفه البلاد و الذي شجع أصحاب المظالم علي الجهر بها و نفض الغبار عنها و المطالبة بتصحيحها و التعويض المادي و المعنوي عنها،… و اختلط في ذلك حابل المظالم الحقيقية المؤسسة علي وقائع من الماضي و شواهد من الحاضر مع نابل أصناف أخري من المظالم منه النفسي و الوهمي و الكيدي.
و يمكن تقسيم تلك الالتهابات التي يعاني منها الجسم الوطني إلي ثلاثة أصناف:
التهاب عرقي و التهاب حقوقي و التهاب شرائحي.
فبخصوص الالتهاب العرقي فصحيح أن الدولة الموريتانية الحديثة عرفت منذ نشأتها الأولي – و التي كانت نشأة ضيزي- شجعت علي التجاذب و الاستقطاب و الاحتقان العرقي بلغ أحيانا حد الصدام العرقي ( أحداث 1966،1979،1989،1991) مما خلف رواسب حقوقية سالت مياه وطنية و إقليمية و غربية كثيرة تحت الجسور قبل إيجاد تسوية مادية و معنوية محمودة بأياد موريتانية وطنية-لآثارها( عودة و دمج اللاجئين،تعويض أصحاب الحقوق تعويضا مجزيا،اعتذار ضمني للدولة عن تجاوزات أحداث 1991،…)
و الضجيج المثار الآن حول المسألة العرقية يجد تفسيره في أنه لا زال قلة قليلون من “تجار المظالم” يعيدون رواسب الاحتقان العرقي أحيانا إلي الواجهة الإعلامية تحت يافطات دعوات الانفصال و الحكم الذاتي و إعادة تأسيس العقد الاجتماعي و مكانة اللغات الوطنية و الفرق بين اللغة الرسمية و اللغة لوطنية و الهوية التعددية أو الهوية الأحادية.. وتصعد حدة اللهجة و تهبط عند تجار المظالم هؤلاء حسب تأرجح مؤشر اتجاهات رياح الأجندات الإقليمية و الدولية التي يقتاتون عليها…
أما فيما يتعلق بقضية الاسترقاق و رواسبه فإنها رغم النيات و الأعمال الحسنة المعلنة من الجميع حكاما و معارضة و نخبا فكرية و من كافة عامة الناس.. لا زالت تستحق المزيد من الاستشراف و المقاربة و التصويب و الاستفادة من التجارب الناجحة للغير.
و قد يصيب البعض حين يرجع استعصاء اختفاءالاسترقاق و رواسبه إلي فشل جزئي لكل من المجتمع المدني( ابتداء من الدولة الوطنية الحديثة) و المجتمع الأهلي( النخب الفكرية و التيارات و الأحزاب السياسية،…) في استشراف خطورة إهمال انعكاسات هذه الظاهرة المجتمعية التي عرفتها كل المجتمعات تقريبا و ما عرفه المجتمع الموريتاني منها -حسب موقع نظري-كان من الصنف المتوسط حدة و اتنشارا.
وقد تجاوزت العديد من الدول و المجتمعات ظاهرة الاسترقاق و رواسبه بفعل إصلاحات و مراجعات مجتمعية ثاقبة قادتها النخب الفكرية و فرضتها علي النخب السياسية و تلك هي الحالة الطبيعية حيث أن النخب الفكرية تهتم أساسا بالاستشراف و الوقاية و العمل في دائرة الأمد المتوسط و الطويل بينما النخب السياسية “مسكونة بالعاجلة” و حساب الربح و الخسارة الآنية و العمل داخل دائرة الأمد القصير و لعل إحدي أهم مشاكلنا في هذا البلد هي استقالة النخب الفكرية و تمييع النخب السياسية.
وقضية الاسترقاق و رواسبه اليوم تكاد تحيد عن مسارهابفعل استقالة النخب الفكرية و تمييع الطبقة السياسية(حيث أصبحت السياسة مهنة من لا مهنة له) و ما قد يوصف بشيئ من تراجع ألق “الرشداء” – و كثير ما هم- من المدافعين عن حقوق ضحايا الاسترقاق و رواسبه في مقابل طغيان أصوات فئة قليلة العدد من “غير الرشداء” الذين يجهرون بالسوء من القول اتجاه الدين و الوطن والتاريخ… وهم بذلك يسيئون إلي القضية أكثر مما يخدمونها بحيث يعملون علي اختزالها و تقزيمها بتحويلها من قضية إجماعية لا يختلف اثنان علي و جاهتها و استعجالها و أسبقيتها في الشأن العام إلي مسألة فئوية لها أنصار و “قاسطون” و دون ذلك.
أما الصنف الثالث من الالتهابات فيرتبط بالعديد من الصيحات الشرائحية و الحقوقية و المناطقية.. و التي من الأكيد أن منها ما لا يخلو من و جاهة إذا سلم من آفتي التهويل و التهوين و منها ما هو وهمي و ما هو كيدي و منها ما لا يعدو ظواهر صوتية تصطاد منافع سياسية أو مادية أو ما ” تيسر” من فتاتهما…
و إذا تمهدت فكرة الالتهابات العرقية و الحقوقية و الشرائحية التي يعاني منها الجسم الوطني علي تفاوت في الخطورة و الاستعجال فإني أحسب أن من واجب النخب الفكرية التداول حول معالم إصلاح مجتمعي كبير يحفظ المجتمع الموريتاني و الدولة الموريتانية من مخاطر الانزلاق نحو رأي الفئة القليلة من ” لا ترى أبعد من مواقع أقدامها.
و في انتظار ذلك اقترح علي أهل السياسة- المتخصصين عادة في المهدئات- ابتكار “مضاد وطني” موجه أساسا إلي مكافحة الالتهاب الأكثر خطورة و هوالالتهاب الحقوقي يتكون ذلك المضاد الوطني من ثلاثة مواد لا تتسع طبيعة هذا النوع من ” الوجبات السريعة للتفكير”Fast food for thought لتفصيل تركبتها لذلك سأقتصر علي تسميتها فقط.
فالمضاد الوطني المطلوب و المتمثل في برنامج عملي مؤقت للقضاء أو التخفيف من الالتهاب الحقوقي يتكون من ثلاثة مواد هي : أولا إنشاء رسم علي الثروة يسمي “رسم التضامن علي الثروة” taxe de solidaritesur la fortune يؤخذ من الأغنياء و توجه عائداته إلي التنمية الاقتصادية و الاجتماعية لمناطق تواجد ضحايا الاسترقاق و رواسبه و ثانيا مأسسة التمييز الإيجابي وتشجيع الخطط السكنية الحضرية المشجعة للاختلاط الاجتماعي(La mixite sociale) و محاربة العوازل السكنية( الكيتوات)و ثالثا إعداد خطة عشرية طموحةباهظة الكلفة للتعليم النظامي و المحظري و التربية المدنية و التكوين المهني و محو الأمية… لصالح سكان مناطق تواجد رواسب الاسترقاق بهدف ردم الفوارق الاجتماعية بين مكونات المجتمع الموريتاني يتم تمويلها بتخصيص غلاف مالي معتبر من عائدات الثروات الوطنية( الحديد، السمك،الغاز، النفط،…).
قد يقول قائل إن الحكومة تتبني بعض مواد هذا المضاد الوطني و هو قول ثابت صحيح و جهد مذكور و مشكور لكن المطلوب هو توسيع حجم المضاد الوطني و أن يشعر المستهدفون بمشاركة المواطن الموريتاني الميسور في التمويل بصفة مباشرة من خلال اقتطاع ضريبي من الأغنياء يوجه لهذا الصنف من الفقراء و بشكل غير مباشر من خلال تخصيص جزء كبير من الموارد المالية العامة لفترة زمنية طويلة مخصص للرفع من شأن هذه الشريحة الهامة من المجتمع و ضمان تكافئ فرص أجيالها المستقبلية مع باقي مكونات المجتمع الموريتاني.