الفلسطينيون يرفضون “الصفقة” وإسرائيل تفعل ما تشاء
حرباً أو سلماً، صراعاً أو مهادنة، وحين كانت “القضية” عربية ثم حين أصبحت نزاعاً مع الفلسطينيين، انتزعت إسرائيل دائماً ما طمعت به وما خططت لسلبه، لأنها اعتمدت منطق القوّة حتى بعدما تخلّى العرب عن خيار الحرب، ولأن حروبها الأولى حظيت بحصانة دولية، ثم تمتّعت حروبها التالية (بعد “السلام كخيار استراتيجي عربي”) بمناعة أميركية ضد الانتقاد والادانة والعقوبات والاتهامات بجرائم حرب وحتى الجرائم ضد الإنسانية المستوحى تعريفها خصوصاً من أهوال “المحرقة” النازية (الهولوكوست). بل ان الولايات المتحدة وإسرائيل تقتبسان العقل النازي لتفرضا على العالم فرادةً خاصة بـ “المحرقة” وتحريم أي إسقاط لمعناها على “محارق” أخرى بما فيها تلك التي ترتكبها ضد الشعب الفلسطيني، وكأن الهدف من “صفقة القرن” شيء آخر غير مَحقِ فلسطين من الوجود، إسماً وشعباً وأرضاً وتاريخاً.
كل تفصيل في هذه “الصفقة” يبدو مستوحىً من “المحرقة” بأدوات العصر وأساليبه. هل يختلف تواطؤ دونالد ترامب – بنيامين نتانياهو كثيراً عن تواطؤ الأقطاب النازيين للقضاء على شعب كامل وحشره في سجون كبيرة ومعازل مقطّعة الأوصال. وهل يغيّر الأمر شيئاً أن لا تكون هناك قطارات ترحيل الى معسكرات الموت وأن لا تكون هناك أفران غاز ومقابر جماعية ما دامت إرادة الاستبداد تقضي بأن لا يكون لهذا الشعب ماضٍ وحاضر ومستقبل، وأن يُمنح فقط “حق” الاعتراف بالاحتلال وحتمية الاستمرار بسرقة أرضه. وهل يمكن تجميل ذلك بمجرّد أن يُسمّى “دولة”؟
كشفت كلمة الرئيس محمود عباس في الجامعة العربية أن السلطة الفلسطينية تلقّت منذ زمن لائحة الإملاءات والشروط، وكلّها تنمّ عن إبادةٍ جغرافية ممرحلة لفلسطين وتمهيد لتضئيل تدريجي لوجود شعبها وإطفاءٍ نهائي لأمله في أن يكون له مستقبل على أرضه. قالت الاملاءات وكذلك بنود “خطة ترامب” أن الاحتلال باق بفعل “الشرعنة” الأميركية، وأن أرض فلسطين خاضعة لمزيد من الاقتطاع والسرقة، وأن السيادة الكاملة لإسرائيل جوّاً وحدوداً وبحراً ومقدّساتٍ وأرضاً وما تحت أرض. ولقاء ذلك ستوزّع على دول الجوار المنهكة اقتصادياً حفنة من المليارات ثمن قبول اللاجئين الفلسطينيين وتوطينهم، لكن أيضاً لقاء قبول “الصفقة” ومواكبة تطبيقها وحراستها. أما دول الجوار الأبعد فستساهم في تمويل “الصفقة” لإسكات الفلسطينيين و”ترغيبهم” بها أو تقطع المساعدات للضغط عليهم كي يتخلّوا عن رفضهم لها.
كالعادة وُصفت “الصفقة” ممن أعدّوها بأنها “الفرصة الأخيرة”. كل المحاولات السابقة سمّيت “فرصة أخيرة”. والفلسطينيون يقولون اليوم أنه مع اميركا لم تكن هناك فرص على الإطلاق، أما مع الإسرائيليين وبشكل ثنائي مباشر وسرّي فكانت “الفرصة” التي وفّرها “اتفاق أوسلو” وقد تعاملوا معها على رغم انقسام الآراء بينهم في مضمونه ومؤدّاه وضرورة تعديله، لكن أيضاً بين الإسرائيليين أنفسهم الذين ما لبثوا أن تفاهموا مع الاميركيين على تعديله من دون التفاهم مع الطرف الآخر، أي الفلسطيني، الى أن وصلوا عملياً الى دفنه. كانوا بذلك يبرهنون أنهم لم يعترفوا يوماً بالشعب الفلسطيني، بل بـ “جماعة سكانية” وجدت بالصدفة في هذا المكان.
لم تأتِ “الصفقة” من فراغ، بل هي أولاً ثمرة التقاء مصالح انتخابية للثنائي “ترامب – نتانياهو” معطوفة على التقاء أيديولوجي بين الانجيليين والصهيونيين. وهي ثانياً ثمرة استخفاف أميركي واسرائيلي مزمن بما تسمّى “الشرعية الدولية” وقراراتها. وهي ثالثاً ثمرة الضربة القاصمة التي تلقاها المشروع الوطني الفلسطيني وأدّت الى انقسام ظاهره خلاف على “مقاومة الاحتلال” وجوهره صراع على السلطة وحقيقته أن الاحتلال الإسرائيلي عمل سرّاً للوصول الى هذا الانقسام وعمل علناً في استغلاله. وهي رابعاً ثمرة التقاء الصراع الأميركي والإسرائيلي مع إيران مع الصراع العربي – الإيراني والإستقطابات المواكبة لهما على خلفية حروب داخلية فتكت بسوريا والعراق واليمن وليبيا وخشيت دول الخليج من انتقال العدوى إليها… وما دامت الدول الأربع وشعوبها، بالإضافة الى لبنان، باتت تحت رحمة نكباتها، وجد نتانياهو وزمرته أن الوقت حان للتخلص من فلسطين وشعبها طالما أن هناك “فرصة لن تتكرّر” بوجود رجل أعمال متهوّر في البيت الأبيض ومتفانٍ في خدمة إسرائيل وتحقيق أحلامها.
لم يكن الهدف اقتراح “خطة” أو “صفقة” مغرية للفلسطينيين، بل كان يجب إشعارهم بقوّة بأنها “موجّهة ضدهم” (كما وصفتها الجزائر) ومن أجل أن يرفضوها. لماذا؟ لأن إسرائيل ستفعل ما تشاء، كما فعلت دائماً، مستندة هذه المرّة الى ترخيص أميركي (ترامبي) وشللٍ/ تواطؤٍ عربي غير مسبوقَين. نعم، ينبغي الإقرار بأن ثمة تباينات عربية متراكمة (مخرجات الربيع العربي، إيران وتدخّلاتها التخريبية، الإسلام السياسي وأدواره المريبة، “حماس” وتجربتها الكارثية في غزّة) أدّت الى التزام متراجع بالقضية الفلسطينية، بل الى تغيير جذري وعميق حيالها لدى بعض الدول. ومن المؤلم أن يترجم هذا التراجع بظواهر تقارب مع إسرائيل بُني بعضها على تأسيس رأي عام عربي معاد للفلسطينيين. أي دولة تقدم على هذا التقارب من أجل مصالحها الأمنية يمكن أن تحظى بتفهّم، أما أن توظّف خطوتها في مواقف ترقى الى إنكار حقوق الشعب الفلسطيني فهذا يعصى على الفهم والقبول.
أن يتحوّل العرب شهوداً عاجزين وصامتين لعملية شطب فلسطين وشعبها فهذا قد يحقّق لبعضٍ منهم مصلحة ولا استقراراً، لكنه سيرسّخ في عقول وقلوب شعوبها أن أنظمتها لن تكون يوماً دول قانون وأنها يمكن أن تكون بسهولة دولاً مستغنية عن شعوبها، إسوة بنماذج الأسد والقذافي وصدّام، أو في الحال الفلسطينية باسترشاد نموذجي شارون ونتانياهو.
يبقى مرض البيت الداخلي الفلسطيني علّة العلل، فهو السرطان الذي زيّن لـ “حماس” أن تتحمّس لأي خطة أو صفقة تكرّس سلطتها على قطاع غزّة، وإذ أيقظتها “صفقة ترامب” أخيراً الى أن الانقسام الذي خاضته فإن استعدادها الآن لـ “المصالحة” ولإعادة الوحدة الوطنية مشوبٌ بالشكوك. ليس فقط لأن “حماس” تأخرت جدّاً جدّاً بل لأنها أدركت من جهة أن إسرائيل وأميركا لم تعودا بحاجة الى الانقسام فقد استنفدتا وظيفته وأغراضه، وباتت تعلم من جهة أخرى أن رهانها على إيران لم يعد له أي مستقبل. لكن، مع ذلك، لا بد من إنهاء الانقسام لأن مواجهة “صفقة القرن” تحتاج الى صوت فلسطيني واحد، فالمزايدات والمناكفات والتخوينات استنفدت أيضاً.
عبدالوهاب بدرخان- من صفحته على الفيسبوك