أيها الأفاضل لم يتحدث أحد عن حرية الردة ولا عن جوازها/ محمد جميل منصور
قرأت ما كتبه الأفاضل، الشيخ عبد الله ولد أمين والأستاذ محمدن ولد الرباني والشيخ محمدن ولد المختار الحسن والشيخ محفوظ ولد ابراهيم فال والدكتور عبد الرحمن ولد اجاه وإن تميز الشيخ محفوظ -وتلك من صفاته- بقدر من الهدوء، ومع تبنيه لرأي العلامة يوسف القرضاوي لم يفته أن يسجل عدم إجماعية القول بقتل المرتد وسرد في ذلك نقاطا يرجع إليها في تدوينته.
اكتفى الشيخ عبد الله ولد أمين بسرد الأحاديث الواردة في الموضوع ويتواصل ما يكتبه وفضل الشيخ محمدن إيراد موقف الجمهور بأدلته ولم يكلف نفسه عناء الإشارة إلى غيره ذكرا أو تعليقا.
أما الأخوان الأستاذ والدكتور فقد فصلا وتتبعا وعلقا، ومع أنني لا أفضل السجال في مثل هذه الأمور فإن بعض اللبس والتداخل يقتضي تعليقات وملاحظات ستشمل ماذكره الأفاضل جميعا مع التركيز على الأخيرين الأستاذ والدكتور، وحين تتحدد الآراء وتكتمل الاستدلالات يكون الباقي تكرارا أو اجترارا وذلك ما لا يناسب.
وقبل البد في ذلك يهمني أن أشيد بمقدمة أوردها الشيخ عبد الله ولد أمين قال فيها :
” لا يستهويني -كثيرا- الحديث عن الحدود والعقوبات الشرعية في واقع لا تقام فيه أحكام الله في السياسة والاقتصاد والتعليم والإعلام وسائر مجالات الحياة ، ذلك أن حدود الشريعة جاءت لمعاقبة من حاد عن هذه الشريعة بلا عذر ، فإذا كان الناس في مجاعة -مثلا- بسبب الحرمان من حقوقهم في الثروة فإقامة حد السرقة عليهم مجانبة للهدي الراشد ” وفي نفس الوقت أسجل استغرابي لبعض العبارات والمصطلحات التي استعملها د.ولد اجاه ولم يسلم منها الأستاذ ولد الرباني، ومنها عنوان مقال الدكتور فقد بدا لي غريبا على المجال غير منتسب لهذا الحقل.
1 – من المهم حين نطرق مسألة أن نبقى في إطارها، لا علاقة للملاحظة المتعلقة بعدم ذكر القرآن للعقوبة الدنيوية للردة بالموقف من السنة مصدرا للتشريع فلو لم تكن كذلك لما نوقشت نصوصها في الموضوع فالنبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى وسنته المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله، صحيح أن المبالغة بنسخ السنة للقرآن مجازفة فالأصل أن القرآن لا ينسخه إلا قرآن مثله قال الإمام الشافعي : ” إنما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب وأن السنة لا ناسخة، وإنما هي تبع للكتاب بمثل ما نزل نصا ومفسرة معنى ما أنزل الله منه مجملا” وأضاف الأصوليون السنة المتواترة – خلافا لغيرها – واعتبروها ناسخة.
نعود إلى وجه الملاحظة حتى نحرره، وجه الإشكال وهو مكمل لغيره لا مستقل بتقرير حال هو أن القرآن ذكر الردة وفي المدني منه ( أي أثناء قيام الدولة وتطبيق أحكامها ) وفصل في عقابها الأخروي ولم يذكر عقابا دنيويا لها، وأن حدودا دونها في مستوى العقاب ذكروا وبالمناسبة لم أعتبر هذه الملاحظة كافية أو حتى دليلا عند أصحاب الرأي الذي له حظ من النظر بل هي مؤشر وداعم في أعلى مستوياتها، أما من استدل بقوله تعالى ” يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه …..الآية فموجود وليس من عندياتي ولا تخليط ثم، بعد إيراد الآية قال د.يوسف القرضاوي : ” وهذا يدل على أن الله هيأ للمرتدين من يقاومهم من المؤمنين المجاهدين الذين وصفهم الله بما وصفهم به مثل أبي بكر والمؤمنين معه الذين أنقذوا الإسلام من فتنة الردة ” من كتابه ” جريمة الردة وعقوبة المرتد في ضوء القرآن والسنة ” فالرجاء عدم الاستعجال أيها القوم، وهذا لا ينفي نسبة ما نسب لابن عاشور بل هو صحيح وتلك محاولة أخرى للعلامة التونسي لا تبدو بدورها موفقة أو بالأحرى مقنعة.
2 – اهتم البعض بعلاقة حديث البخاري ” من بدل دينه فاقتلوه ” بسلوك اليهود المستهزئ بالدين الحاض على الفتنة زمنيا ولم يتوقف عند المعنى الموضوعي الذي أوضحته عندما أشرت إلى نوع الصفة التي صدر بها الحديث أهي صفة النبوة والتبليغ أم صفة الإمامة والسياسة ولكل منهما تبعاته على فهم النص وتنزيله قال الإمام القرافي في كتابه ” الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام ” : ” وأما تصرفه صلى الله عليه وسلم بالإمامة فهو وصف زائد على النبوة والرسالة والفتيا والقضاء، لأن الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق وضبط معاقد المصالح ودرء المفاسد وقمع الجناة وقتل الطغاة وتوطين العباد في البلاد إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس، وهذا ليس داخلا في مفهوم الفتيا ولا الحكم ولا الرسالة ولا النبوة، لتحقق الفتيا بمجرد الإخبار عن حكم الله تعالى بمقتضى الأدلة ”
ومما يعزز هذا الفهم (الصدور بصفة الإمامة) المرويات التي أوردها ابن حزم عن عمر بن عبد العزيز ومعروف أنه قد يستدرك على أبي محمد في فهمه لظاهريته ولكنه ” لا يجازف في النقل ” قال ابن حزم :
” حدثنا حمام حدثنا مفرج حدثنا ابن الأعرابي حدثنا الدبري حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل أن عاملا لعمر بن عبد العزيز كتب إلى عمر بن عبد العزيز في رجل أسلم ثم ارتد فكتب إليه عمر بن عبد العزيز : أن اسأله عن شرائع الإسلام فإن كان قد عرفها فاعرض عليه الإسلام فإن أبى فاضرب عنقه وإن كان لم يعرفها فغلظ عليه الجزية ودعه ”
ثم أكمل ابن حزم :
” قال معمر وأخبرني قوم من أهل الجزيرة أن قوما أسلموا ثم لم يمكثوا إلا قليلا حتى ارتدوا فكتب فيهم ميمون بن مهران إلى عمر بن عبد العزيز فكتب عمر بن عبد العزيز : أن رد عليهم الجزية ودعهم ”
ثم أضاف ابن حزم :
” وقد روي نحو هذا عن عمر بن الخطاب ”
فهل يكفي هذا لجعل القول بصدور حكم المرتد بصفة الإمامة – ولذلك ما له من آثار – قولا له حظ من النظر.
أما العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فصحيح ولكن صحيح كذلك أن معرفة أسباب النزول في القرآن وأسباب الورود في الحديث معينة على الفهم.
3 – إشكال العلاقة بين روايات حديث ” لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ……”
هل الأولى التفاضل بينها في درجات الصحة والبحث عما يخرج حديث أبي داؤود من دائرة الاستدلال مما لا يخلو منه حديث من الأحاديث المذكورة بما فيها حديث البخاري ” من بدل دينه فاقتلوه ” أم الأولى الجمع بين الروايات خصوصا مع اتحاد المضمون الكلي وهو الأسباب المبيحة لدم المرء المسلم.
حين يقال ” صححه الألباني ” فأمر له وزنه عند أصحاب الفن والجمع القائم على التكامل والإضافات الشارحة ممكن وسلس فمن رواية عامة ذكرت الأسباب ومنها ” كفر بعد إسلام ” إلى رواية أضافت قيدا لا تأكيدا – ولذلك معناه – ” التارك لدينه المفارق للجماعة ” إلى رواية أعطت مضمونا عمليا لمفارقة الجماعة “… ورجل خرج محاربا لله ولرسوله ….” والجمع كما نعلم أولى من الترجيح والتفضيل والترتيب.
أما الحرابة والإخلال بالأمن العام مارسه مسلم أو غير مسلم فموضوع آخر.
نحن نتحدث عن الردة النظرية يصاحبها عمل أو لا يصاحبها وادعاء الخلط بين الموضوعين تكلف.
4 – ملفت هو التحقيب التاريخي لتطور أحكام الردة وإن خلا من الدليل المصاحب والمؤكد له وتبدو عندي حاجته للعزو والإسناد أكبر خصوصا أننا نتحدث عن قرآن مدني وأحداث في المدينة وأحكام في ظل مرحلة الدولة، وعلى كل حال حالات الردة التي لم يعاقب عليها صلى الله عليه وسلم واردة في أحاديث صحيحة فلزم التشكيك فيها أو إثبات نسخها وهو ما لم يقع أما التأويل فأخاف أن يعود على منهجية البعض بالنقض لأنها تنكره ابتداء وترفض مخرجاته من بعد.
أما تفسير قصة الأعرابي في حديث الشيخين الذي طلب الإقالة وأنها من الهجرة لا من الإسلام فلا يوافق عليه ابن حجر ولا النووي شارحا البخاري ومسلم فقد نقلا عن القاضي عياض أنه كان يطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إقالته من الإسلام، ومحاكمة تصرف الأعرابي إلى المنطق من بعد ذلك لا لزوم لها!
أما حديث أنس الذي رواه البخاري في كتاب المناقب ، باب علامات النبوة .. فنصه يغني عن التكلف في أسئلة في غير محلها ” كان رجل نصرانيا فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد نصرانيا فكان يقول : ما يدري محمد إلا ما كتبت له فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض…. ”
5 – لا أفهم كيف استنتج بعض الأفاضل أن الترحم على ابن حزم فيه إشعار بتفرده بالقول بنسخ قوله تعالى ” لا إكراه في الدين ….” ولكني أحس أن ذكر الإمام الطبري ونسبة الروايات التي ذكرت إليه فيه إشعار أو سلوك أقوى بأن الطبري يدعم هذا الرأي والحقيقة أنه جاء في الطبري بعد الاختيار بأنها غير منسوخة ” وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لما قد دللنا عليه في كتابنا( كتاب اللطيف من البيان عن أصول الأحكام ): من أن الناسخ غير كائن ناسخا إلا ما نفى حكم المنسوخ، فلم يجز اجتماعهما. فأما ما كان ظاهره العموم من الأمر والنهي، وباطنه الخصوص، فهو من الناس والمنسوخ بمعزل ” ثم إن قوله تعالى ” قد تبين الرشد من الغي ” هو في مقام التعليل والدين واضح وطريقه معلوم ورحم الله البيضاوي ” وقد تبين أن الرشد في اتباعه والغي في تركه والإعراض عنه فلا موجب لأن يكره أحد أحدا في الدين ”
6 – فيما يتعلق بما نسب لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا داعي للمقارنة بين ما جاء في الموطأ أو التمهيد أو البيهقي أو عبد الرزاق من حيث التقديم والتأخير ودرجات الصحة مما يترتب عليه اختيار أو إسقاط فهي تتكامل وتأتي كل منها بما يشرح الأخرى وبالمناسبة لا ذكر للقتل فيها رغم إشارة الإعذار في التمهيد:
في رواية الموطأ ” ….. فقال عمر : هلا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله ثم قال عمر : اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني ”
وعند ابن عبد البر : ” ….. قال( عمر) : ويلكم أعجزتم أن تطبقوا عليه بيتا ثلاثا، ثم تلقوا إليه كل يوم رغيفا فإن تاب قبلتم منه، وإن أقام كنتم قد أعذرتم إليه، اللهم إني لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذ بلغني ”
وعند البيهقي ” …. قال(عمر) : إنا لله وإنا إليه راجعون ، قال : لأن أكون أخذتهم سلما أحب إلي مما طلعت عليه الشمس من صفراء وبيضاء قلت : وهل كان سبيلهم إلا القتل قال : نعم كنت أعرض عليهم الإسلام فإن أبوا أستودعهم السجن”
وفي المصنف ” ….. قال(عمر) : كنت عارضا عليهم الباب الذي خرجوا منه أن يدخلوا فيه فإن فعلوا ذلك قبلت منهم وإلا استودعتهم السجن ”
ومن الأهمية بمكان الانتباه لنكير عمر رضي الله عنه وإعلان براءته مما حدث، هل يكون ذلك بسبب إجراء وأيام أم بسبب مضمون ومفهوم أهم من ذلك وأعلى.
7 – لا أتصور أن إثبات نسبة الرأي المذكور لابراهيم النخعي أو للثوري بمغير شيئا كثيرا في ظل العدد الكبير من علماء الصحابة والتابعين القائلين بالقتل وبالتالي لا داعي لتكلف تبرئة ابراهيم النخعي من رأي اشتهر عنه وهذا ابن حجر الذي اعتمد عليه البعض يؤكد ذلك :
” واختلف القائلون بالاستتابة، هل يكتفى بالمرة أو لا بد من ثلاث وهل الثلاث في مجلس أو في يوم واحد أو في ثلاثة أيام وعن علي : يستتاب شهرا وعن النخعي يستتاب أبدا كما نقل عنه مطلقا، والتحقيق أنه فيمن تكررت منه الردة” وقد نقل الإمام سفيان الثوري كما في المصنف رأي ابراهيم النخعي وعقب عليه ” هذا الذي نأخذ به ”
8 – يبقى موضوع الأحناف ونفي ارتباط مذهبهم في عدم قتل المرتدة بالتفريق بين الرجل والمرأة في الفعل الزائد على الردة النظرية وأن الأمر مرتبط بأحكام الجهاد حيث لا يقتل النساء ونسي القوم أن تعليل عدم قتل المرأة في الجهاد مذكور في الحديث تصريحا ” ما كانت هذه لتقاتل ” ومن هنا تعدية العلة عند الأحناف تلقائية فتدبروا يرحمكم الله ثم إن صاحب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع يؤكد ” أن المرتدة لا تقتل بلا خلاف بينهم (يعني الأحناف)”
ثم إن الأمر ليس خاصا بالأحناف قال ابن حجر :
” قال ابن المنذر قال الجمهور : تقتل المرتدة وقال علي تسترق، وقال عمر بن عبد العزيز : تباع بأرض أخرى وقال الثوري : تحبس ولا تقتل وأسنده عن ابن عباس قال: وهو قول عطاء وقال أبو حنيفة تحبس الحرة ويؤمر مولى الأمة أن يجبرها ”
بل إبن حجر أورد زيادة تؤكد أن الأمر ليس على النحو الذي يتصوره البعض : ” ومقابل قول هؤلاء ( القائلون بقتل المرتدة ) حديث ابن عباس ” لا تقتل النساء إذا هن ارتددن ” رواه أبو حنيفه عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس، أخرجه ابن أبي شيبة والدارقطني ” ثم علق ابن حجر ” وخالفه جماعة من الحفاظ في لفظ المتن ”
9 – أيها الأفاضل : لم يتحدث أحد عن حرية الردة ولا عن جوازها، بل هي جريمة بنص القرآن والوعيد فيه شديد والرأي الغالب فيها القتل، كلما في الأمر أن هناك رأيا له حظ من النظر تلك أدلته وهذه معززاته ولن يكون مفهوما رميه بالشذوذ والخروج على النصوص وبالمناسبة تم التجاوز في استعمال مصطلح الشذوذ في التاريخ الإسلامي حتى أخرج من خصائصه العلمية إلى صفة يلاحق بها من لا ترضى عنه سلطة الوقت والفقهاء المقربون منها فاقتصدوا في استعماله واقتصدوا أكثر في تنزيله على حالات وآراء بعينها.