المُثَقَّفُونَ الجُدُد/ المختار ولد داهى
من الموريتانيين قومٌ حُوًلٌ قُلًبٌ تَحُوًلَ و تَقُلًبَ مناخ نواكشوط الذي يراوح بين الحر العنيف و البرد اللطيف علي مدار الساعة يُصْبِحُ ساخنا و يُمْسِي باردا.
فمن هؤلاء من عَهْدُكَ به منعدم الزاد العلمي عابثا غافلا قليلَ الاحترام لتعاليم الإسلام فإذا به من دون فترة نقاهة و لا وقفة “مراجعة” و لا فاصل إعادة تأهيل واعظا جَهُورًا و مُحَدِثا وقورا يذرع مساجد البلاد شَرْقًا و غَرْبًا و شمالا و جنوبا داعيا إلي الله، ساكنا في المساجد و مُتباكِيا من خشية الله كثير الأتباع و الأشياع و يُطْلَقُ علي هذه الفئة إعلاميا “الدعاة الجدد”.
و منهم طائفة أخري كان الناسُ يَتَحَسًرُون علي فَقْدِهِمْ الأمل في فُرَصِ العمل حين سَلًمُوا أنفسهم لليأس و القنوط فأسندوا ظهورهم لجذوع شجر الساحات العمومية القليلة و الصغيرة الباقية بنواكشوط -بعد عَبَثِ أَرَضَةِ القطع الأرضية من الموظفين و “فرسان السندات العقارية”- وهم يلعبون طول النهار و زُلَفا من الليل لُعْبَةَ “العيدان و البَعْرِ”.
و بين طرفة عين و انتباهتها إذا بهم يركبون آخر صَيْحاتِ موضات السيارات الرباعية الفارهة و يملكون من حُمُرِ النعم الآلاف و يُنَافِسُوَنَ علي رئاسة قبائلهم و الكُل يَرْقُبُ بين حَامِدٍ و حَاسِدٍ و غَابِطٍ و ليس منهم مستغربٌ و لا متأففٌ و لا مستنكرٌ فالنقود عند بقية العالم بلا رائحة و عندنا في موريتانيا رائحتُها دوما نقيةٌ زكيةٌ!! و ألسنة الرأي العام رَطِبَةٌ من تسمية هؤلاء بالأثرياء الجدد.
و جماعة أخري غادروا قاعات الدرس الإعدادي مُطَأْطِئِي رُؤُوسِهم و بعد فترة من التيه دَلَفُوا إلي الأسواق بَيْعا و شراء و وساطة تارة يربحون و كثيرا ما يخسرون تحولوا بضربة عصا سحرية إلي نجوم رُفُوفِ المكتبات العلمية و المقالات الفكريةّ و الحوارات التلفزيونية و الندوات الثقافية وُجوهُهُمْ من فولاذ مُخَصًبٍ لا يعرف الحياءُ إلي قلوبهم طريقا بِضَاعَتُهم العلمية مُزْجَاةٌ يجادلون فيما ليس لهم به علمٌ و هم “المُثَقًوُنَ الجُدُدُ”!!
و يمكن تصنيف ما هو متواجد بالمشهد السياسي و الإعلامي و الثقافي من المثقفين الجدد إلي عدة فئات أذكر منها مثلا لا حصرا:-
أولا-فئة المفكرين و المؤلفين: و هم جماعة تُفاجئ الرأي العام بين الفينة و الأخري ببعض المُؤلفات و الكتب تُعجبك “أجسامُ”تلك الكتب حَبْكًا و غلِافا و وَرَقا و السائل عن مضمونها حاسدٌ حاقدٌ مُكْثِرٌ!! تملأُ أسماء جماعة المفكرين هؤلاء رُفوفَ جناح الكُتًابِ الموريتانيين في المكتبات التجارية بالوطن و بالخارج لا يُعرف عنهم اهتمامٌ سابق بتحصيل العلوم و لا تعليمها يشاع أنهم يستأجرون بعض الأدمغة و الأقلام فيكتبون لهم كُتُبا حول بعض المواضيع المستجدة سعيا منهم إلي الانتساب لدوحة المفكرين و المؤلفين.
ثانيا:كُتاب المقالات و رواد السجالات الكتابية: وهؤلاء جماعة يَعْمُرُون كل الجرائد و المواقع الألكترونية بالمقالات و السجالات الكتابية حول كل المواضيع دَيْدَنُهم مدحُ جماعة أو فرد أو الدفاع عنهما، إذا دُعوا إلي حوار مباشر امتنعوا و أحْجَمُوا و ألقوا المعاذير تَقْرَأُ لهم كثيرا و لا تسمع منهم مطلقا.
يَستغرِب الناس من مواهبهم الخفية و “الغير مباشرة” و من الناس من يجزم بأنهم أُمٍيُونَ أو أشباه أميين يؤجرون أقلاما تفكر و تكتب لهم؛ و من أماراتهم أنهم دائما يَصْحَبُونَ كتابا معهم يحفظون عنوانه و اسم مؤلفه و لا يفقهون شيئا عن مضمونه، إن سألتهم عنه أجابوك بأنهم اقتنوه للتو ولو أنهم تَأَبًطُوهُ و تَأَنًقُوا به منذ أشهر!!
ثالثا-نُجوم الفضائيات و الندوات و الملتقيات و الجَلَسَاتِ : و من أبرز صفاتهم غلاءُ و أناقةُ الملبس مُتمثلين قول الإنجليز أن “حُسْنَ الملبس مفتاحٌ لكل باب”Good clothes open all doors لا يخلو منهم مَحفل و لا مُلتقي و لا مَجلس إذا رأيتهم حسبتهم دكاترة مُبَرزِين، مُتنطِعُون لم يَدْرُسُوا قط علما أفكارهم مهلهلةٌ: فكرةٌ شرقيةٌ و أخري غربيةٌ و يعرفون من كل فن نِتَفًا أغلبُهم لا يتقنون القراءة و لا الكتابة.
يَدُسون أنوفهم في كل حديث حتي و لو كان عن الفيزياء النووية مُسْتَشْهِدِين بأقوال الإذاعة الوطنية الناطقة بالعربية!! يتقولون علي الساسة و المفكرين و ينسبون لهم ما لم يقولوا و يَرْوُونَ عنهم مُحَرفا ما قالوا ولا يَهُمُهم دقة و لا صحة ما قالوا هم لسبويه أَلَدُ الخصام يُرَصٍعُونَ حديثهم بكلمة أو اثنتين من الفرنسية و لا تُشترط سلامتهما من العيوب الصرفية و لا النحوية.
هؤلاء المثقفون الجدد يحتلون اليوم ما يزيد علي الجزء الأكبر من المشهد السياسي و الإعلامي و الثقافي الوطني و من أعظم مساوئهم طَرْدُهُمْ للمثقفين الأقحاح إعمالا لمفعول النظرية القائلة بأن “العُملة السيئة تطرد العُملة الجيدة” La mauvaise monnaie chasse la Bonne فهل من مجير .!!