علم ورقي… أم دجل وانحطاط؟!/ بقلم/ م. محفوظ بن أحمد
لا شك أن الرقى والطب، مفهومًا وممارسة، وُجِدا قبل الاسلام وفي عصره النبوي المنقى.
ولكن في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عصر صحابته الكرام والتابعين وتابعيهم بإحسان… لم يُعرف شيء اسمه “الطب النبوي” ولا شيء اسمه “الرقية الشرعية”… واعني هذين المصطلحين بتركيبهما حرفيا فقط.
بل لعل أول ظهور لمصطلح “الطب النبوي” كان بقلم العلامة ابن قيم الجوزية في القرن الثامن الهجري.
وأما “الرقية الشرعية” فمصطلح متأخر عن ذلك؛ شاع وذاع في المشرق السلفي (منذ قرن تقريبا).
المفارقة أن هذين المصطلحين البراقين, الميمون ظاهرهما اللفظي, أكثر من يروجون لهما اليوم هم السلفيون المنكرون أصلا للتبرك والتوسل…!!
وقد كانت الرقية بالقرآن والدعاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على وجه عام لكل المسلمين دون تخصيص ولا مهنية؛ ومقيدة ومشروطة بالخلو من الشرك والسحر…
وقد ورد في الحديث الصحيح أن مِن عباد الله الصالحين الذين يدخلون الجنة بلا حساب: “الذين لا يرقون ولا يَسترْقون”.
وبما أن رواية البخاري لهذا الحديث ليس فيها “لا يرقون” فقد تشبث بها السلفيون; بل انتقد كثير من علمائهم بشدة وحدة رواية مسلم وغيره من الصحيح الكاملة المتقدمة التي فيها “لا يرقون”! واتخذوا من رواية البخاري دليلا على جواز الرقية “الشرعية”, مع أنها في حد ذاتها لا تؤيد رأيهم؛ لأنه بدون من يسترقون لا رقية ولاهم يحزنون! فلا بيع من دون مشتر ولا زواج بدون زوج…!!
وقد ابتليت مجتمعات الخليج العربية، الذي يحكم رسميا باسم السلفية، اليوم بظاهرة الخوف والوهم من مصائب المسّ والجن والحسد والسحر… الخ، لتنتشر فيها ما تسمى الرقية الشرعية وتصبح صناعة مربحة رائجة، باتت تُصدَّر للشعوب الجاهلة الفقيرة!
وللأمانة فإن من علماء السلفية المحققين من أنكروا هذه الظاهرة وحذروا منها.
يقول الشيخ الألباني:
“ولم يثبت عنه عليه السلام هذا الكلام الذي نسمعه في هذا الزمان من الذين تعاطوا مهنة الرقية لهؤلاء المصابين، فأنا أعتقد أن انتشار هذه المهنة هو ليس من الشرع لا من قريب ولا من بعيد (…)
فاتخاذ هذه المهنة كقربة إلى الله عز وجل يكفينا أن نعرف بدعيتها أنها لم تكن في القرون الأولى (…) أما إن كان المقصود بذلك جلب الدنيا وجمع الآجلة فذلك بلا شك مهنة غير شرعية لأن الذين يتعاطونها لا يقفون عند الحدود الشرعية (…) ثم اتسع الخرق على الراقع ودخل في هذه المهنة الفساق والفجار والفاسقات والفاجرات و…و… إلى آخره”
(“سلسلة الهدى والنور” للشيخ ناصر الدين الألباني).
***
في بلادنا الموريتانية، كان هناك الحجابة و”المخدَّمون” وأهل “الجداول” وحتى المشعوذون… لكن لم يكن منهم من يجرؤ على الظهور والدعاية لنفسه و”فنه”، بل يأتيهم الناس متسترين، وأكثرهم لا يشترطون الأجرة.
وأما أهل الصلاح والدين فهم يبذلون “لحْجاب” دعاء شرعيا للجميع، بدون مقابل ولا اختصاص، طبقا للهدي المستقيم.
واليوم لم تعد هناك حدود ولا تحفظ لمن يتعاطون تجارة “الرقية الشرعية” و”الطب النبوي” وينصبون على العامة بالتمسح بآيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، إمعانا في الدجل والخديعة، لأكل أموالهم بالباطل.
بل تحولت هذه الشعوذة والدجل إلى صناعة وشركات مساهمة، تنفق المال على الدعاية وتشتري البث لأباطيلها من بعض قنوات التلفزة المحلية الجشعة… بل ولديها في الخارج محطات تلفزة مخصصة لنشر شعوذتها عبر الاقمار الصناعية؛ يشاهدها الناس ويقعون في حبائل دجلها بالإنفاق أولا على الاتصالات الهاتفية بأصحابها والسفر إليهم أو استيراد منتجاتهم الوهمية…
إن على السلطات العمومية في بلادنا، حماية للمواطنين وصحتهم وأموالهم وصيانة للشرع الطاهر، أن تطبق القانون بصرامة على هؤلاء الدجالين وتغلق أوكارهم وتمحو إعلاناتهم وآثارهم ودعاياتهم… من الفضاء العام على الأقل، وتطرد الوافدين منهم الذين باتوا يتخذون من موريتانيا مركزا لاستثمار دجلهم فيها، مستغلين انتشار الجهل والمرض، وغلاء وفشل الاستشفاء الطبي… وخبرتهم الهائلة في النصب والاحتيال على العواطف الدينية.