في معية الرئيس القدوة سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله / محمد كابر ولد حمودي
خلال صيف عام 2006 وبالتزامن مع تراجع المبادرات الداعية إلى تمديد المرحلة الانتقالية وتمكين العسكريين من إطالة فترتهم في الحكم عبر ما عرف حينها ب “البطاقة البيضاء”، بدا أن البلاد مقبلة على انتخابات سياسية، بلدية وتشريعية ورئاسية.
فشرعت النخب الوطنية في الاصطفاف ضمن مشهد سياسي جديد سمته الغالبة سعي المجلس العسكري الحاكم برئاسة المرحوم، اعل ولد محمد فال، إلى تفكيك الحزب الجمهوري للديمقراطية والتجديد، الوريث الشرعي للحزب الحاكم سابقا، عبر إفراغه من معظم ناخبيه الكبار من أطر وأعيان. وميلاد حركة سياسية جديدة، تمثلت في تيار المستقلين الذي تشكل من رحم الحزب الجمهوري، ونزوح أعداد كبيرة من الأطر وكبار الناخبين باتجاه أحزاب المعارضة، وبالذات تكتل القوى الديمقراطية واتحاد قوى التقدم.
في هذا السياق المتسم بالاضطراب وعدم اليقين، بدأت بعض المجموعات السياسية في دوائرها الخاصة تبحث عن أفضل السيناريوهات لعبور البلد بصفة آمنة إلى نظام مدني مستقر.
وكان تفكير الجميع، إذ ذاك، منصبا نحو منصب رئيس الجمهورية، لما له من أهمية في نظام رئاسي، ينتظر منه أن يواجه تركة ثقيلة من المظالم الإنسانية والتغابن الاقتصادي والاجتماعي وإقصاء المعارضين، ويراد له أن يتأسس على أنقاض أنظمة عسكرية أو شبه عسكرية.
وكانت إحدى هذه المجموعات التي أعتبر نفسي شريكا لها في العمل السياسي سباقة في هذا الموضوع، إذ أبلغني أحدهم وقد تعودت الاسترشاد بآرائه، أن سيدي ولد الشيخ عبد الله، يبدو – من بين عديدين – أكثر أهلية في المرحلة الراهنة لتولي قيادة البلاد.
وطفق صديقي يعدد خصال الرجل وصفاته المميزة. فهو اقتصادي تراكمت لديه خبرة وطنية ودولية مشهودة؛ وهو أحد التكنوقراطيين الموقعين في بداية سبعينات القرن الماضي لرسالة تطالب الأب المؤسس، الرئيس المختار ولد داداه بالقيام ببعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية المتناغمة ـ آنذاك ـ مع مطالب الشباب اليساري؛ وهو مثقف رزين تكون سياسيا في كنف المدرسة الداداهية المعروفة بغيرتها على الوحدة الوطنية؛ وهو منحدر من ولاية تتوسط البلاد وتزخر بتنوعها الثقافي والعرقي؛ وهو مستقل عن أطراف المشهد السياسي بنظامه السابق ومعارضيه، مما يمنحه ميزة تفضيلية تمكنه من معالجة بعض القضايا الشائكة، مثل الرق والنازحين والإرث الإنساني، بعيدا عن السجالات السياسية والخصومات العرقية والطائفية التي لم يكن طرفا فيها.
وأبلغني نفس الصديق أنه التقى صحبة زميل له بسيدي ولد الشيخ عبد الله في منزله، وبدا لهما أنه مهتم بموضوع الرئاسيات. وبعد ذلك علمت أن حسم موضوع ترشحه للانتخابات يتوقف على إجراء اتصالات مع بعض الأطراف والشخصيات.
وقد تبين فيما بعد أن نتائج تلك الاتصالات شجعته على إعلان ترشحه من مسقط رأسه “لمدن” لرئاسة الجمهورية في انتخابات 2007.
خلال هذه المرحلة وفي سياق مسعى مشترك مع أصدقائي لتهيئة “ديناميكية الترشح”، طلبت من زميل لي من أسرة أهل الشيخ عبد الله، أن يرتب لي موعدا مع المرشح سيدي، فاستجاب مشكورا، وتتالت بعد ذلك لقاءاتي معه، تارة منفردا ومرات بمعية آخرين، من منتخبين وأعيان وأطر، تولى بعضهم – لاحقا – أدوارا سياسية في حملة المرشح و مناصب سامية في الحكومة و الإدارة.
وطوال الفترة التي حظيت فيها بالقرب من سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، مترشحا رئاسيا أو رئيسا فعليا أو محاربا متأبطا سيف الشرعية ومنتصرا بقوة القانون، كنت أشعر كلما التقيته، بأنني أكتشف جانبا جديدا من شخصية الرجل لم أعرفه بالبديهة من قبل.
وفي جميع اللقاءات التي تكاثفت مع إقامتي معه في لمدن، أثناء الأزمة الدستورية وما رافقها من صعود وهبوط في المواقف، وما انكشف فيها من وفاء وغدر، وما ظهر إبانها من قوة وضعف، ومن حزم وليونة؛ لاحظت إصرار هذا الرجل على العزوف عن النيل من أعراض الناس وحرصه على خلو مجلسه من الغيبة واستهجانه للتحامل على الآخرين بمن فيهم خصومه.
كما لاحظت قدرته على الإصغاء لمحدثه دون مقاطعة أو تململ، وهدوءه وتماسكه أمام المحن والعثرات التي يصعب إخفاؤها على كثيرين.
أما صدقه فيبدوا واضحا من تجنبه الإسراف في الالتزامات والوعود الانتخابية، وفي حرصه على قول الحقيقة وإن كانت مجانفتها مغرية في بعض الأوقات.
أتذكر أنه نظم لقاءات مع المنتخبين والأعيان من مختلف ولايات الوطن في فندق ساميراميس، قبيل انطلاق الحملة الانتخابية ولم يرق لبعض الوجهاء خلو حديثه من الوعود والالتزامات ذات الطابع الخصوصي، فأبلغه أحد مستشاريه بذلك، طالبا منه مراعاة الأمر في اللقاءات اللاحقة، ولكنه كان صارما في رده بأنه لن يلتزم بأمور شخصية مخافة تعارض الوفاء بها مع الوفاء باحترام مبادئ العدل.
كما أتذكر أنه استقبل ممثلين لجماعة الإصلاحيين الفاعلة في الساحة السياسية واشترطوا عليه تعهدا مكتوبا بضمان الترخيص لهم بإنشاء حزب سياسي حالما يصبح رئيسا للبلاد. لكنه رفض هذا الشرط، رغم حاجته إلى أصواتهم ونيته الصادقة في تشريع حزب سياسي يمارسون من خلاله حقهم الذي لا مراء فيه.
وأتذكر أنه لم يدرج قطع العلاقات مع إسرائيل في برنامجه الانتخابي رغم نيته عرض موضوع هذه العلاقات على البرلمان لاستصدار توصية بهذا الشأن.
وأتذكر أنني شخصيا لم أصدق في البداية قصة غفوته بعد مطالعته كتابا، في مكتب قائد كتيبة الحرس الرئاسي، الجنرال حينها، محمد ولد عبد العزيز، قبل سماعها من سيدي مباشرة والاستماع لها منه ثانيا في برنامج تلفزيوني، أعده الصحافي القدير في قناة الجزيرة، محمذن باب ولد اشفاغ. ولما أيقنت بصحة الخبر تذكرت قصة القائد الفارسي الهرمزان مع الخليفة العادل عمر ابن الخطاب رضي الله عنه عند ما وجده نائما في المسجد دون حراسة، فقال قولته المشهورة “حكمت ياعمر فعدلت فأمنت فنمت”
وصدق المثل الحساني القائل “الل ما يصرك ما تخلع الكصاصه” ومعناه أن من لم يسرق لا يخاف تعقب الخطى.
لقد لاحظت احترام الرئيس سيدي للآخرين في أكثر من مناسبة حتى لو كانوا في موقع الخصم؛ إذ أتذكر ذات مرة أنه مع بداية الحديث عن بوادر الخلاف ، بين الزعيم أحمد ولداداه ورئيس المجلس العسكري آنذك، الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، بعد شهرين من الانقلاب، تساءل أحد الحضور كيف ستكون مواقف بعض الشخصيات الوطنية الداعمة للزعيم أحمد ولد داد؟
وكان الوزير السابق محمد عبد الرحمن ولد امين من بين المذكورين، علما بأنه والد المحامي والمثقف اللامع، محمد ولد امين، الوزير يومئذ في الحكومة؛ فما كان من الرئيس سيدي إلا أن قاطع المتحدث بنبرة خاصة على غير عادته قائلا ” لا تخطئوا في حق محمد عبد الرحمن، فله من الشجاعة والشهامة ما يستحيل معه أن يتخلى عن أحمد ولد داداه في وضع كهذا!
وواصل شهادته حول الرجل مستحضرا قصتين:
إحداهما تتعلق بترقية الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله لمحمد عبد الرحمن وهو شاب يافع في مقتبل تجربته المهنية، من حاكم في افديرك، على ما أظن، إلى سفير في دولة الكويت. وقد استغرب بعض الوزراء حينها هذا الإجراء!
إلا أن مفاجأتي يقول الرئيس سيدي كانت كبيرة عند ما اكتشفت أثناء تعاملي مع مختلف ملفات التعاون بصفتي وزيرا للاقتصاد أن جميع الملفات الواردة من سفارتنا في الكويت كانت تتميز عن غيرها بالضبط والتنظيم والإتقان.
أما القصة الثانية، يقول الرئيس سيدي فكانت أثناء إقامتي في الكويت موظفا في الصندوق الكويتي للإنماء، عند ما أبلغت الدكتور عبد اللطيف الحمد، وزير المالية حينئذ في دولة الكويت الشقيقة، بأن محمد عبد الرحمان ولد امين يرغب في زيارته في المكتب، فرد علي بصوت فخم يعبر عن التقدير والاحترام، لا، لا، “السفير محمد عبد الرحمن لا يحتاج إلى موعد، بل يحضر متى شاء ويدخل من أي باب أراد” فشعرت حينها، يقول الرئيس سيدي بالاعتزاز!
وأتذكر في هذا المقام شهادة أخرى في حق الرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني
إذ قال الرئيس سيدي إنه بعد ثلاثة أيام على الانقلاب وأثناء إقامته القسرية في إحدى فيلاهات المركز الوطني للمؤتمرات، حجبت عنه القنوات الدولية، لكنه حظي بإمكانية مشاهدة بث التلفزيون الوطني. ورغم أن الفعاليات والأنشطة التي تغطيها التلفزة في تلك الفترة كانت تنال منه شخصيا ومن نظامه ومحيطه العائلي، فقد حرص طيلة تلك الإقامة على متابعة الخرجات الخطابية للضباط خلال المهرجانات الشعبية المنظمة لشرح دوافع “التغيير” وذلك كما يقول الرئيس سيدي، لسبب واحد، هو أنني لا أتصور أن يسلك محمد ولد الشيخ محمد أحمد نفس السلوك أو يتفوه بذات الأقوال التي سمعتها من آخرين، حسب ما عرفت فيه من حسن طوية ودماثة أخلاق.
وفي مجال الزهد في تحصيل المال؛ ورغم قصر الفترة التي عايشت فيها الرئيس سيدي، فقد اطلعت على أمثلة محدودة، لكنها ذات دلالة على تعففه عن فتات المال:
المثال الأول، عندما أوصل إليه وزير المجموعات المحلية والاستصلاح الترابي يحي ولد كبد مبلغا نقديا قدره خمسمائة ألف دولار ($ 500000) هدية من الرئيس الغابوني الحاج عمر بونكو، أمره بإيداعها في حساب في الخزينة الوطنية لصالح إحدى الوكالات الوطنية، وبالذات وكالة استقبال ودمج اللاجئين.
ويتعلق المثال الثاني بحقيبة قدمها إليه المرافق العسكري للرئيس السنغالي عبد الله واد وبمعية الأخير، أثناء استضافة الرئيس سيدي له في منزله بانواكشوط بمناسبة حضوره للإشراف على مراسم التوقيع على اتفاقيات داكار.
وخاطبه الرئيس واد قائلا “هذه الحقيبة تحوي مبلغا نقديا أحضرته معي هدية لكم، للمساعدة في النفقات والأعباء التي تواجهون”. لكن الرئيس سيدي أعرض عن استلامها بلباقة، قائلا “سيادة الرئيس نحن الآن منشغلون بأمر سياسي يتعلق بمصير البلد وأرى أن نؤجل بقية المواضيع إلى ما بعد الانتهاء من هذه العملية” لينصرف المرافق العسكري بالحقيبة بعد إشارة من واد.
وفي المثال الثالث، كنت شاهدا، حيث استلمت أثناء مقامي في داكار قبل المفاوضات، بصفتي مدير ديوانه في فترة الصراع على الشرعية، مبلغين نقديين معتبرين، مرسلين من رئيسين إفريقيين صديقين للرئيس سيدي؛ فأمرني بتوزيعهما بين موفديه في تلك الفترة إلى أوروبا وآمريكا وإفريقيا، دون أن يستبقي دولارا واحدا.
أما المثال الرابع، فيمكن استنتاجه بسهولة من رفضه مطلب معمرالقذافي بتوقيع وثيقة مطبوعة سلفا، يعلن فيها تنازله عن السلطة طواعية!
وذلك خلال سهرتين متتاليتين تقابل فيهما الرجلان وحدهما لمدة ساعات في إحدي خيم “القائد” المضروبة في ضواحي مدينة سيرت، بينما بقي الوفد الموريتاني المرافق للرئيس سيدي في خيمة أخرى صحبة شخصيات ليبية يتقدمها عبد السلام التريكي. ولم أطلع مثل غيري من أعضاء الوفد المرافق على فحوى ما جرى بين الرجلين في المقابلتين الطويلتين إلا بعد عودتنا إلى انواكشوط، حين أراني الرئيس سيدي نص التنازل المقترح عليه من القذافي، وأخبرني أن القائد وضعه أمام خيارين أولهما توقيع وثيقة التنازل مقابل التكريم في موريتانيا وفي الجماهيرية العظمى مع الإشارة إلى عطاءات مغرية لا أعرف ماهيتها. والخيار الثاني يتضمن تلميحا يهدف إلى إخافته مما يمكن أن يفعل به الضباط في موريتانيا إذا لم يستجب لهذا العرض!
غير أن الرئيس سيدي لم يتزحزح عن موقفه الرافض للتوقيع طيلة ليلتين مرهقتين له ولوفده المرافق على أكثر من صعيد.
لست أدري حقيقة ما الذي توقعه البعض من تلك الزيارة، لكننا وبحمد الله عدنا من الغنيمة بالإياب سالمين.
وكان القذافي قد أجرى مكالمة هاتفية قبل ذلك مع الرئيس سيدي إبان زيارته الجدلية لانواكشوط، التي زكى فيها (6 -6) موعدا للانتخابات الرئاسية. وخلال تلك المكالمة طلب القذافي من الرئيس سيدي أن يستقيل من رئاسة الجمهورية، مقترحا عليه أن يزوره في مقر إقامته بقرية لمدن تكريما له، وواعدا إياه بأمور أخرى قد تكون مغرية لبعض الناس، ولكنها لا تعني الكثير بالنسبة لسيدي محمد ولد الشيخ عبد الله.
وبالغ القذافي في الإلحاح موجها سؤاله للرئيس سيدي، “لم لا تقبلون طلبي لكم بالتنازل عن السلطة، فأنتم أفضل من الرئاسة”؟ فرد عليه الرئيس سيدي بالسؤال، و”لم لا تقبلون أنتم دعم المشروع الديمقراطي الذي أحمل لبلدي”؟
لقد اكتشفت في أكثر من مناسبة قدرة الرئيس سيدي على الإقناع وصياغته السلسة لمواقفه وتماسك حججه، لكن ما فاجأني بحق هو صبره وطول نفسه في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية التي تتالت عليه حتى من بعض الشركاء، بيد أنه ظل متشبثا بمواقفه الرافضة للمساومات والحلول التي لا تستند على الشرعية الدستورية، قائلا في كل مرة إنه يتمسك ب”قوة القانون في مواجهة قانون القوة”
وقد علمت أثناء مفاوضات داكار أن وفدا من قادة الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية زاره في “لمدن” ولقي صعوبة في إقناعه ببعض المقتضيات المتعلقة بمفاوضات داكار الجارية حينها.
لم تكن تلك الممانعة بسبب تعلق الرجل بالسلطة ولا بسبب نقص في ثقته بشركائه في الجبهة ولا تسفيها لهم ولا انتقاصا من تضحياتهم المشهودة، لكنها كانت بسبب وعيه الكامل بأهمية سلاح الشرعية وضرورة التمسك به حتى يتوصل جميع الفرقاء ـ خاصة ـ داعمو الشرعية إلى تسوية مرضية، ترتكز على حل المجلس الأعلى للدولة وإلغاء أجندته الانتخابية وتشكيل حكومة إئتلافية، تتولى تنظيم انتخابات رئاسية متفق على آلياتها التنظيمية وجدولتها الزمنية، على أن تضم الأطراف الثلاثة؛ الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية وتكتل القوى الديمقراطية وداعمي السلطة العسكرية القائمة.
ولإضفاء طابع الشرعية على هذه الإجراءات، كان لزاما أن يعلن عنها في حفل مهيب يوقع أثناءه الرئيس الشرعي، سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، المرسوم المشكل للحكومة الجديدة ويلقي خطابا موجها إلى الشعب، يتم بثه فورا عبر الإذاعة والتلفزيون الوطنيين ويختمه بإعلان استقالته من رئاسة الجمهورية. وأظنكم تتذكرون توقفه – أمام الملإ – عن متابعة إلقاء الخطاب، عند ما علم بانقطاع البث التلفزيوني، كيدا أو خطأ، ليستأنفه لاحقا بعد التأكد من عودة أجهزة البث للتشغيل.
والحقيقة أن معظم الموريتانيين وأنا من بينهم، لم يعرفوا الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله إلا من خلال تلك التجربة المريرة!
وفيما يخصني، ودون إخلال بواجب التحفظ، وبعيدا عن ما قد يظنه البعض ترويجا لمشروع في غير محله؛ فإنني أستحضر أمثلة تعبر عن فلسفة الرجل في ممارسة السلطة، والمقاربات التي اتبعها في التعامل مع بعض الأحداث والملفات.
فقد علمت منه أنه فكر بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية في تشكيل حكومة سياسية موسعة، لكنه لم يستطع تجسيد هذا الخيار بسبب رفض تيار واسع من المستقلين لتوسيع قاعدة المشاركة في السلطة من جهة، ولصعوبة الاختيار بين المستقلين من جهة ثانية، حيث يستحيل تمثيل أي منهم بغيره!
وقد قال الرئيس سيدي حينها إن الناس يرون المسؤولية من زاويتين مختلفتين؛ فبعضهم يراها حملا ثقيلا يحتاج المساعدة والتعاون، بينما يرى فيها البعض غنيمة توزع، كلما كثر المشاركون فيها نقص نصيب أي منهم!
وعند تشكيل حكومة يحيى ولد أحمد الوقف الأولى، أوصى الرئيس سيدي بدعوة قوى المعارضة الرئيسة للمشاركة في حكومة موسعة، لكن الاستجابة كانت جزئية.
ونرى في المثالين التاليين ميل الرئيس سيدي إلى الإنصاف وانحيازه للعدالة؛ إذ كان عليه أن يختار خلال الأشهر الأولى من مأموريته رئيسا لجامعة انواكشوط بين ثلاثة جامعيين، أولهم قيادي نشط في حزب التكتل المعارض لنظامه، وثانيهم مستقل صوت لصالحه في الانتخابات الرئاسية، وثالثهم كان مسؤولا في حملته الانتخابية.
ورغم امتلاكه صلاحية اختيار أي من الثلاثة، فقد اختار الأول في الترتيب لأن ذلك أقرب في نظره إلى العدالة.
ويتعلق المثال الثاني بتعيين قيادي في حزب التكتل المعارض سفيرا، مما تسبب في امتعاض بعض الشركاء، فرد الرئيس سيدي عليهم بأن الأمر يتعلق بديبلماسي مهني، ينتمي إلى شريحة اجتماعية مهمشة. وهما معياران كافيان في نظره لإلغاء الاعتبارات الأخرى.
وأستحضر مفهوم الدولة عند الرئيس سيدي في رده على المطالبين بعقد قمة طارئة لمنظمة إقليمية تتمتع موريتانيا بعضويتها، وذلك بهدف تنحية إطار موريتاني يرأسها في تلك الفترة، وبحجة أن هذا الإطار لا يقوم بدوره في الدفاع عن مصالح البلاد. فكان جوابه مؤلفا من عنصرين:
الأول، استغرابه لمطالبة دولة تحترم نفسها باستبدال المرتبة الأولى في هرم منظمة دولية أو إقليمية بالمرتبة الثانية!
والثاني، قوله إن مهمة الدفاع عن مصالح البلد على مستوى المنظمة تقع على عاتق الموظفين الموريتانيين الممثلين للدولة، أما رئيس المنظمة فواجبه يتمثل في حماية المنظمة والدفاع عن المصالح المشتركة لجميع أعضائها دون انحياز.
وفي مجال الحكامة، اعتمدت حكومة الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله مسطرة إجرائية تستهدف تمهين الوظائف، تم بموجبها الفصل بين المسؤوليات السياسية والمناصب الفنية، و منحت وفقا لها صلاحيات التعيين للوزراء في العديد من المناصب الإدارية (المديرين المساعدين المركزيين ورؤساء المصالح و الأقسام الإدارية)، فضلا عن اعتماد معايير مهنية بحتة لتقلد المسؤوليات الفنية وتحديد ضوابط التدرج التلقائي في مختلف المناصب. ومن المؤسف حقا أن هذه الإصلاحات تم إلغاؤها دون مسوغ.
و يبرز المثال التالي مدى انشغال الرئيس سيدي بالبحث عن آليات لمحاربة الإقصاء، إذ عبر لي ذات مرة في ما يشبه حلقة مثاقفة عن فكرة سبق أن خطرت بباله لكنه لم يجد الوقت الكافي لدراستها.
ومؤدى هذه الفكرة أن موارد البلد محدودة ومختزلة أساسا في ما تملكه الدولة من وسائل أو تمنحه من امتيازات مباشرة أو غير مباشرة، وأن أسباب التنافر والصراع في معظمها تعود إلى الحصول على الوسائل او الولوج إلى الامتيازات. وأن الديمقراطية في شكلها المتعارف عليه تنبني على شيئ من الإقصاء بسبب تكريسها للسلطة، بما يترتب على ذلك من امتيازات ومزايا، في يد الطرف الحاصل على (1+ 50% ) من أصوات الناخبين.
ويتساءل الرئيس سيدي في نهاية هذا العرض، عن ما إذا كان من الممكن التفكير في معالجة هذا الخلل بالفصل بين المسؤولية الأولى في الدولة، التي تبقى من نصيب الحائز على الأغلبية المطلقة من الأصوات، بينما يتم توزيع الباقي من المناصب على الفرقاء حسب عدد الأصوات التي تحصل عليها كل فريق (30% و 19% مثلا)؟
وعلى صعيد العمل المهني، يمكن لمن اقترب من الرئيس سيدي أن يكتشف بسهولة بعد نظره وعمق تفكيره وسعة ثقافته حين يلاحظ تفحصه للمشاريع المقترحة عليه، مضمونا وصياغة. فسنة التشاور مع المساعدين والأعوان والشركاء راسخة لديه. يختار من الجمل أكثرها دلالة ومن العبارات ألطفها. لا يتخذ قراره في الغالب إلا بعد أن يستشير ويستفسر ويناقش، ويحرص على استقبال الملاحظات وردود الأفعال على قراراته في عملية تقويم ذاتي مستمرة.
ويستخلص من هذه الأمثلة والأفكار المستطردة من أحداث غير معلومة لدى عامة الجمهور، أن الرئيس سيدي ميال إلى العدل، مجبول على الإنصاف، ناهيك عن ما اطلع عليه الناس من قرارات ومعالجات تتعلق بقضايا وطنية كبرى، مثل تجريم الرق وتنظيم عودة اللاجئين والشروع في تسوية الإرث الإنساني.
وفي بيت الرئيس سيدي، يشع الحب والاحترام بين أفراد عائلته، المؤلفة من زوجته الكريمة وأبنائه الميامين وبنته الحصيفة، ولا يستثنى من ذلك عمال المنزل من سائق وفراش وبستاني. الأوامر في البيت طلبات والتعليمات توصيات والنواهي تنبيهات، إلا في حالات استثنائية يتطلبها المقام.
وأختم هذه العجالة على أمل العودة إلى الموضوع لاحقا، بإفشاء سر، لا ضير في إعلانه الآن؛ إذ قال لي الرئيس سيدي إن إحدى الشخصيات الوطنية اقترحت عليه في صيغة سؤال، لم لا يكتب مذكراته الشخصية لتدوين بعض الأحداث وإنارة الأجيال الشابة حول بعض المحطات الهامة من تاريخ البلد؟
وقد أكد لي أنه يتجنب كتابة مذكراته، لأنها في نظره إما أن تأتي على التفاصيل والجزئيات وهذا ما يتحاشاه خشية الوقوع في أعراض الآخرين. وإما أن يغفل تفاصيل الأحداث وسياقاتها، فتأتي المذكرات هزيلة، ومجتزأة، وفاقدة لأية قيمة تاريخية أو ثقافية.
تغمد الله سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وبارك في خلفه.
وهنيئا لأهله الطيبين في قرية لمدن الوادعة بما ترك لهم الراحل من ذكر حسن ينضاف إلى سجل حافل بالمآثر والمكارم، التي ورثوها أبا عن جد.
وجزاء الخير لرئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني على التكريم المستحق للرئيس سيدي والوداع المهيب، الذي أمر به وحرص على حضوره.
وشكرا للشعب الموريتاني، وخاصة سكان انواكشوط، الذين تنادوا بمختلف مكوناتهم من كل الجهات لتوديع هذا الرجل إنصافا له وتقديرا لعظمته. وصدق من قال إن الأمة التي لا تكرم عظماءها لا تستحق البقاء.
رحم الله الرئيس القدوة، سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله وطيب مثواه.