قيامة سميدع الثائر اليساري في مصنع بالسنغال*/ محمدٌ ولد إشدو
كانت سنتا 1971 و1972 من أقسى سنوات النضال الوطني في موريتانيا ضد الاستعمار الجديد والاستلاب والرجعية والعبودية. وكان لا بد فيهما من التأسيس ووضع المعالم، ثم رفع التحدي وكسب معركة كسر العظم وصراع الإرادات المحتدمة بين الحركة الوطنية الخارجة حديثا من العباءة القومية (بشقيها) إلى فضاء الوطنية والعالمية، وبين نظام ما يزال يسيطر فيه الجناح المحافظ المتعنت الموالي للاستعمار الفرنسي والرجعية على مفاصل الدولة، ويراهن على تسفيه ودحض أحلام الشباب الصبيانية، وإمكانية قهر الحركة الوطنية الديمقراطية الصاعدة.
وفي تلك الأثناء أطلت ذكرى رحيل سميدع القائد الشبابي البطل الذي يجسد كل القيم التي تنادي بها الحركة الوطنية الجديدة. كان النظام يريد ويعمل على طمس قيم سميدع، وكانت الحركة تريد نشرها؛ فمن – يا ترى- سيكسب رهان صراع الإرادات؟! لا بد من تخليد ذكرى سميدع رغم ضعف الإمكانيات، ورغم كون الحركة لم تمتلك بعد أجهزة طباعة ونشر آمنة! كتبنا كتابا عن سميدع ورَقَنَّاهُ على الورق المشمع. ولكن كيف يتم سحبه كي يرى النور؟ توجهنا من جديد صوب سفارة الأرز نريد آلة سحب ومكانا آمنا! كنت يومها مختبئا في غياهب السرية والمطلوب رقم واحد لأجهزة النظام القمعية! وكان أحمد مخدر (الأستاذ أحمد) قد غادر داكار عائدا إلى لبنان حيث التحق بالجامعة هناك. لكن الرفيق الطالب محمد ولد لمرابط (الطالب في جامعة داكار) ظل على اتصال بسفارة الأرز، وعند ما فاتح الإخوة في الموضوع تصدى للقيام بالمهمة الرئيس المدير العام سعيد فخري رحمه الله؛ فأشرف بنفسه – هو وحرمه المصونة الكريمة دنيا- على تنظيم العملية فهيآ للرفيقين القياديين في الحركة بَدِّن ولد عابدين والطالب محمد ولد لمرابط مكانا آمنا في مصنع الصابون يوم عطلة الأسبوع. فبدآ السحب. وفي منتصف الليل جاء سعيد نفسه ودنيا يحملان ما لذ وطاب من القرى إلى رفيقينا فوجداهما قد أنهيا عملهما فأوصلاهما إلى حيث يريدان! ولم نحتج بعدها إلى غير؛ بل أنشأنا مراكزنا الآمنة تحت الأرض؛ وذلك بإشراف وحدة المهمات الخاصة التي قادها بنجاح منقطع النظير الرفيق بدن ولد عابدين طيلة سنوات الجمر العجاف!
وفي عشية الذكرى الثانية لرحيل رمز النضال وأيقونة الثورة على الاستعمار الجديد والرجعية والعبودية – سميدع رحمه الله- تم توزيع الكتاب في جميع أنحاء البلاد رغم أنف أجهزة القمع التي جن جنونها وطأطأت رؤوسها صاغرة اعترافا بالهزيمة!
وقد تصدرت الكتاب صورة مطبوعة بهية لسميدع وقصيدة شاعر موريتانيا الكبير المناضل الأستاذ أحمدو ولد عبد القادر الخالدة البديعة التي رثاه بها، ومنها يتحدث عن شيمه ويهيب بالشباب أن يأخذوا المشعل من يده:
يحز في النفس آلاما وأحزانا ** موت الرفيق إذا ما كان إنسانا
وكان حرا نقي العزم متخذا ** على مبادئه بالبذل برهانا
يجود بالنفس مرتاحا ومغتبطا ** ويوسع الذات عند الجود نكرانا
براءة الطفل تحنو فوق بسمته ** إن كان يألف إخوانا وخلانا
وصولة المارد الجبار عادته ** إن ثار يفضح تدليسا وطغيانا
قل للطلائع إذ ترثي سميدعها ** والرزء أثقل من أجبال تاگانا:
لا تمنحوه رثاء لا يلائمه ** دمعا وخوفا وإشفاقا وإذعانا
قد كان يأمل، والتصميم شيمته ** أن تصبحوا لسماء المجد عقبانا
فلتأخذوا المشعل الخفاق من يده ** ولتملؤوا الدرب إقداما وإيمانا.1
… ولقد كان لشاعرنا الفذ ما أراد! فانتفض الشباب الموريتاني الرائع بقيادة طلائعه الشجاعة انتفاضة رسخت نفوذ الجناح الإصلاحي في السلطة، وآذنت بتجديده وتطعيمه بدخول كوكبة من الشباب حملة الشهادات العليا إلى الحكومة (جماعة التكنوقراط) على علاتهم، وعصفت بالاتفاقيات الاستعمارية المذلة، وفرضت الخروج من الاتحاد النقدي الإفريقي الفرنسي وإنشاء عملة وطنية هي الأوقية، وإعلان اللغة العربية اللغة الرسمية للبلاد والنهوض باللغات الوطنية الأخرى، وتأميم شركة ميفرما التي كانت تحكم موريتانيا، وإصدار عفو عام شمل كافة السجناء والمطلوبين السياسيين، وإرجاع جميع المفصولين إلى أعمالهم، وتسوية أوضاعهم، وإنهاء مأساة سكان أحياء الصفيح بتوزيع الأرض عليهم مجانا (المقاطعات الأولى والخامسة، ثم السادسة) وانتهاج سياسة اجتماعية في مجالات التعليم والصحة والأمن الغذائي، وتوحيد الأمة حول ميثاق وطني يلغي استغلال الإنسان للإنسان (الرق)!
وما إن أشرقت شمس الذكرى الخامسة عشرة للاستقلال الوطني حتى أصبحت موريتانيا متصالحة مع نفسها وقد كسرت قيود الاستعمار الجديد والرجعية والعبودية، وأعطت استقلالها كل معانيه ووضعت أسس نهضة شاملة. وهذا النصر هو ما وثقته وعبرت عنه بجلاء قصيدة ريشة الفن لشاعر موريتانيا الأول وأحد قادة تلك المسيرة الظافرة، الأستاذ أحمدو ولد عبد القادر حين قال:
كنت حلما معللا بالأماني ** همسات تجوب درب الكلال
تارة أبصر الحياة وأخرى ** ألمس الصمت في ضمير الليالي
وأنا اليوم صرخة تركب الريـ ** ـح جوادا تعلو متون الجبال
وأنا اليوم مشعل عبقري ** يزرع النور في جبين الزوال
وأنا اليوم فتية صاحَبوا الفـ ** ـن ونالوا من وحيه كل غال
ورحيق الجَمال بين يديهم ** منهل للنفوس صافي الزلال
يتعاطون برده وشذاه ** في كؤوس ظلالها كاللآلي
نحتوها من كوكب قمري ** في سماء الفنون صعب المنال
يتجلى في الشعر جدول سحر ** ضفتاه من روعة وجلال
قزحي الأنفاس يحمل فيضاً ** أبدياً يهتز كالشلال
وتراه العيون رسما ونقشا ** نمنمته يد البها والكمال
مثلما يبدع السحاب إذا ما ** عانق الأرض بعد قطع الوصال
هللي موريتاني ما ذاك إلا ** ومضة من سراجك المتلالي
هللي يا بلاد ما نحن إلا ** قطرة من معينك السلسال
وابشري صفقي لوثبة نبع ** ظل يسقي مواكب الأجيال
حاول الغرب حبسه ذات يوم ** عن مجاريه عبر هذي الرمال
فانبرى يمضغ السدود ويجري ** لا يبالي بشأنها لا يبالي
وتسامى أصالة وشموخا ** في رحاب الخلود ثر النوال
نهضـة ترفـع المـعـارف جسـرا ** ذهبـيـا يـرقـى بـهـا للمـعالـي
فكرها عزمها صواعق نار ** تتصدى للمسخ والإذلال
وانتقام من الجمود وضرب ** لـنـوايـا المستـعـمـر المـحـتــال..2
____________________
1. أحمد ولد عبد القادر: مجموعات شعرية، ص 75.
2. المرجع نفسه، ص 123.
* من كتاب “سفارة الأرز في إفريقيا الغربية” للكاتب (قريبا في المكتبات بإذن الله)