من تاريخ الكادحين (7).. الذكرى الأولى لصدور “صيحة المظلوم” /بدن ولد عابدين
بعد الحديث عن السحر الأسود و علاج أمراضٍ لا دواء لها بوصفات المشعوذين الغريبة العجيبة وتأثيرهم الواضح على سلوك بعض الناس المؤمنين بهذه الخرافات وما عانيناه من صعاب و شظف عيش ،تدور الأيام و يحتدم الصراع بين الكادحين وحكومة المغفور له بإذن الله المختار ولد داداه طيب الله ثراه، ويتعاظم دور “صيحة المظلوم”، أصبحت على كل لسان وضمن كل حديث وشغل الناس الشاغل. وإنتظم صدور إعدادها تباعا، لا تتأخر عن موعدها ويتلقفها المناضلون كل مرة، يوزعونها يفسرون كلماتها يعملون بما أشارت إليه مقالاتها، ينتظمون في دورات تُخَرِجُ المؤطرين من قادة العمل الجماهري.
ذات يوم في أواخر شهر مايو، وبالتحديد في التاسع والعشرين منه، سنة 1972 أكملت “صيحة المظلوم” عامها الأول، تمشي واثقة الخطى لا يعرقل تقدمها عائق إلا تجاوزته بثبات. قرر الرفاق بهيئة التحرير إحياء الذكرى الأولى لصدور العدد الأول من الصحيفة بعد إتمام العمل في إعداد عددها الثالث عشر. تطبيقا للقرار الذي كثر مؤيدوه وقل معارضوه ردد الرفاق حجتهم في تحسين الأوضاع المعيشية بالمناسبة وأكدوا أنهم صاموا سنة كاملة ولن يفطروا على جرادة، وبعد مداولات وجدال تقرر أن تُهدر الدماء ويؤكل اللحم يوم عيد “صيحة المظلوم”. ذهبنا إلى سوق الغنم في “المربط” واشترينا شاة إتفق الرفاق أنها تُجْزِءُ ويحسن السكوت عليها. أخذنا الضحية المسكينة نسوقها إلى حتفها على شاطئ المحيط، غير بعيد من مكان تَرْجِيتْ الحالي. شَمَّرَ الرفاق عن سواعدهم وقسمنا المهمات نتبارى في إنجازها بحماس منقطع النظير. اعددنا المائدة وتحلقنا حولها، ساد التوافق التام على إفراغ الإناء مما فيه، شربنا الشاي بالنعناع وبدأنا صفحة النقد والنقد الذاتي، أبرز ما في هذه الحلقات الحديث عن تقييم تجربة هيئة التحرير وتصحيح المسار بناء على صدى المقالات المتتابعة خلال السنة الأولى من حياة الصحيفة. تكلم الحاضرون عن إشكالية خط التحرير موضوعا وأسلوبا : هل نتوجه إلى عامة الناس وبسطاء القراء الكادحين ومنهم من علمنا بالكاد حروف الأبجدية مثل الأرقاء السابقين والمهمشين في المجتمع وما أكثرهم عددا، جُلُهُمْ يتحلقون في مجموعات يقوم أحد من سبقوهم لمحو الأمية فيقرأ المقال ويشرحه كلمة كلمة بلغة مفهومة ويرد على المستفسرين من إخوانه البائسين المتلهفين للمعرفة ليخلصهم من براثين الجهل التي لا ترحم .وكثيرا ما يضيف “الأستاذ” إلى تفسيره و”إحمراره” أفكارا من نسيج خياله لا صلة لها بتاتا بالكادحبن فكرا وتصورا.
لا أنسى أن الأسلوب البسيط المذكور، على علاته، نشر العلم و وسع أفق المهمشين الرازحين أبا عن جد تحت نير الجهل وظلمات التخلف. ولذا بدأ هؤلاء القوم يبرزون في المجتمع ويتمردون جهارا على وضعهم المزري وكأنهم ولدوا من جديد سلاحهم نور العلم وما أكتسبوا من وعي سياسي يتنامى بإطراد، تتسع رقعته لتشمل خلقا جديدا يواظب على قراءة “صيحة المظلوم” التقدمية ويناصب العداء علنا للرجعيين والتخلف البغيض.
أما الطرف الآخر من المعادلة المطروحة للدرس والنقاش في عيد “صيحة المظلوم” فهو يتمحور حول ما إذا كان يُسْتَحَبُ على مضمون ما نكتب ونقول للناس أن يستهدف النخبة المتعلمة من جمهور القراء بلغة يفهمونها ونترك لهم دور التوصيل والنشر على المستويات الأخرى.
تواصل الحوار بين الرفاق أعضاء هيئة التحرير فأُشبع الموضوع نقاشا، لم يتوصلوا إلى توافق في الرأي بل إنقسموا فريقين تَمَسَكَ كل منهما بأطروحاته واستمر الخلاف على الموضوع يبرز مرة ويخبو تارة ثم يعود خلال نقاشات كل عدد جديد، يُحسم فيه الصراع الفكري باللجوء إلى التصويت ليفوز ما نال إعجاب الأكثرية البسيطة وفي حالة التعادل يكون رأي مسؤول الخلية مُرَجَحًا لفض النزاع.
أما بخصوص جانب الحصة من النقد الذاتي فهو مؤثر يقوم فيه المنتقد لذاته بالحديث عن أخطائه خلال تأدية الأعمال المسندة إليه وموقفه من بسطاء الناس ومن رفاقه فَيُسَلِطُ الضوء على ذلك ويُعبر عن ندمه عن ما بدر منه ونيته أن لا يعود إلى الخطإ، ويتكلم باقي الحاضرين عن قصصهم الخاصة ويحاولون رفع المعنويات. وتتويجا للحفل البهيج للذكرى الأولى “لصيحة المظلوم” وبعد أن قام أحد الحاضرين بتلخيص ما دار حوله من نقاش وما تم الإتفاق عليه، أَخْرَجْتُ من جيبي صُرَةً ملفوفة بعناية، لا يدرك الناظر إليها محتواها، أمعن الرفاق النظر في ما بيدي و بدأوا يتهامسون إنتظارا للمرتقب، كان عبارة عن قطعة من قماش بيضاء اللون سُطِرَتْ على صفحتها عبارة مزركشة بخيط أحمر منظرها جميل براق، قرأها الحاضرون بفم واحد. بدأتُ القراءة بصوة جهوري : “بطل صيحة المظلوم” سلمتها يدا بيد للرفيق الصبور يسلم ابن عبدم وضعها على صدره معتزا فخورا فصفق الرفاق وأعجبوا بما نال من تكريم مستحق. على هامش الإحتفال والتوشيح وجهتُ الكلام إلى الشاعر الكبير أحمدو عبد القادر : هلا ترى مقصدا أدبيا في الموضوع يكون ختام مسك للذكرى الأولى “لصيحة المظلوم”؟ أجاب أحمدو عبد القادر بِنَعَمْ واستطرد : الشعر ينزل على صاحبه إلهاما لكن ربما توافق الإلهام ورغبتكم في هذه الحالة ! وظهر السرور باديا على الرفاق الباقين : فاضل الداه والمختار حي ويسلم أبن عبدم. كانت تلكم الأجواء التي ظهرت وشاعت بعدها رائعة أحمدو عبد القادر ومنها :
رُوحُ الْكِفَاحِ وَأقْدَامُ الْعَبِيدِ وَدَوْ
رَاتُ الزَّمَانِ وَمَا تُخْفِي لَيَالِيهَا
سَتَطْحَنُ الشَّوْكَ عَنْ مِنْهَاجِ ثَوْرَتِنَا
وَيَطْلُعُ الْفَجْرُ رَقْرَاقًا يُبَارِيهَا
ولهذه القصيدة قصة أخرى سنعرض لها في حينها بحول الله ومشيئته…
بدن عابدين
من صفحة الاستاذ عبد القادر ولد محمد