من تاريخ الكادحين: هروب من سجن شديد الحراسة ح (14) يقدمها بدن عابدين
فى سنة 1973 تمكنت أجهزة الحكومة من
اصطياد صيد ٍ ظلت تبحث عنه فى كل مكان ، حالفها الحظ هذه المرة فى القاء القبض عليه
فى “الكبة” ، فأقتادوه الى سجنٍ تحت رقابة مشددة كان يحتضن بعض الرفاق الآخرين .
وفى لحظة انشغل فيها الجلادون يتكالبون
على الرفيق فاضل الداه يضربونه شُلَّت
أيديهم ويتفننون فى تعذيبه ويبدي لهم مقاومة
شرسة ، انتهز الرفيق محمدن إشدو الفرصة
فوثب بعيداً وأسرع الخطى الى مخبإ تحت الارض غير بعيد من زنزانته ، تم التعامل معه
واخفاؤه بسرعة وأخذت أسرة الحراسة مكانها،
مكتملة بالام والأب والأولاد والأواني ! ولما دخلت
عليهم فرق التفتيش التى طوقت المكان وقلبت كل
شييء رأساً على عقب وجدوهم يذكرون الله جهراً ويبتهلون اليه ابتهالاً فقال رئيس الفرق
لجنوده دعوهم وشأنهم ليسوا كادحين إطلاقاً ،
فَلَو كانوا منهم لما ذكروا الله كثيراً ! فانصرف
القوم خائبين وسلم المحروس. ولنعطي الكلام
للرفيق محمدن إشدٌو ليصف بقلمه وأسلوبه
ما حصل تلك الليلة وما بعدها:
”بعد بحث طويل استغرق زهاء سنة، تم القبض علي ذات مساء في الكبة، حيث كنت مختبئا مع مجموعة من الشباب مكلفة بحراستي وبالقيام ببعض الأعمال الأخرى، وكنت يومها مسؤول لجنة العمل الثوري المحلي CARL. وقد اعتبرت يومئذ عملية القبض علي نصرا ثمينا للحكومة وأجهزة أمنها، وهزيمة قوية للكادحين؛ فكان لا بد من رفع التحدي. قضيت ليالي في ضيافة المفوضية المركزية، ثم نقلت مع جماعة من المعتقلين من بينهم الأستاذان الفاضلان أحمد ولد خباه رحمه الله، واعلي ولد ببوط أطال الله بقاءه، إلى منزل في لكصر بدأ تجميع المعتقلين القادمين من مختلف المفوضيات فيه ليكون النواة الأولى لمعتقل بيلا سيئ السمعة.
وبعد ليلة ليلاء لم أذق فيها طعم النوم، ليس بسبب السهرات المجانية المتواصلة التي يحييها البعوض احتفاء بضيوف المنزل وتستمر فعالياتها حتى الصباح؛ بل بسبب معركة حامية الوطيس دارت في زنزانة مجاورة لزنزانتي بين إحدى فرق التعذيب وبين رفيقي وصديقي فاضل ولد الداه، الذي حل بالمنزل دون أن أعلم بمقدمه. كانوا يضربونه بقسوة وكان يصيح بأعلى صوته الجهوري كلما ضربوه قائلا بالعربية والفرنسية تسقط الفاشية. وكان ذلك أحد شعاراتنا في تلك المرحلة. لماذا يضربونه بقسوة، وما ذا يريدون منه؟ وهل الحقوقي الذي يقود البلد كان على علم بممارسة التعذيب في ظله وهو المتشبث بالشرعية وخريج مهد الثورات ومنارة حقوق الإنسان! وفي ضحى اليوم التالي جاء دوري فاقتادوني إلى غرفة للتعذيب. جئت محاطا برجال أشداء يمسكون أطرافي بقوة فاستقبلني مفوضان من ولايتي؛ بل من مسقط رأسي! لا أتذكر أنهما سألاني عن شيء، بل أمر أكثرهما شراسة وحقدا على الكادحين بتجريدي من ثيابي، ثم صفعني صفعة قوية. لم أسقط لأنني لملمت جميع قواي من جهة، ولأني كنت محشورا بين قبضات رجاله الذين اكتفوا بتثبيت أطرافي دون أن يهجم علي، أو ينالني أحدهم بسوء. ولما لم أسقط نكص على عقبيه، وأخذ يسب الشباب والكادحين ويتوعد بالعودة في الليلة القادمة
ليلة. الحسم
يومها قررت أن أنفذ الفعل الذي يعتمل في نفسي منذ أن وقعت في قبضة العدو؛ والذي سيشكل – إن نجح- ضربة قاسية لكبريائهم وغطرستهم وتبجحهم. كانت الحراسة مشددة جدا علينا عموما، وعلي خصوصا. وكانت فرقتان من الحرس يقودهما آمران تتناوبان على حراستنا كل أربع وعشرين ساعة. كان آمرا فرقتي الحرس من طينة مختلفة. كان أحدهما قاسيا ومندفعا ضدنا، وكان الثاني وهو أحمد ولد امبيريك – أطال الله بقاءه- معتدلا لينا، يقوم بواجبه دون تشدد أو غلو. ولذلك عقدت العزم على تنفيذ العملية في نوبة الآمر المتشدد مهما كلف الثمن. وصادف أن كان في نوبته ذلك اليوم. فحصت ما استطعت فحصة من المعتقل فوجدت فيه ثغرة واحدة هي الحمام الذي كان منفصلا عن بقية البيوت وكان سقفه قديما ومهترئا يسهل كسره؛ فقررت استغلال تلك الثغرة والنفاذ منها. كنت خلال أيام اعتقالي أتظاهر بالمرض والضعف. وبعد صلاة المغرب بنصف ساعة أو يزيد قليلا أعلنت رغبتي في الاستحمام. ذهب معي حارسان إلى الحمام بعد مماطلة وتردد، فلما دخلته أغلقته بإحكام ونزعت دراعة بيضاء كنت أرتديها فعلقتها حيث تمكن رؤيتها من خلال تشققات باب الحمام الخشبي وصببت الماء على مصراعيه صبا شديدا وتظاهرت بالتمتع بغمره جسدي وأصدرت بعض الأصوات الدالة على الارتياح برهة من الوقت؛ وهو ما جعل الحراس يغفلون عني ويطمئنون. وفي نفس الوقت أعددت منفذا في السقف صعدت إليه مستعينا بماسورة الرشاش. وما إن صعدت إلى حافة السقف حتى قفزت إلى خارج المعتقل وكانت الأرض – من فضل الله- ملساء ناعمة فلم أصب بأذى، فعدوت غربا، وكنت في شبابي عداء ماهرا. لا أعرف كم استغرقت العملية. ولكني أتذكر أن ربع ساعة (أو ثلثها) من العدو السريع قادني إلى أحد مراكزنا تحت الأرض غرب لكصر، فأدخلني الرفاق القائمون عليه فورا إلى القبو وقاموا على حراستي مشكورين إلى أن غادرت انواكشوط. أما ما بلغني عن الجماعة التي غادرتها، فيحكى أنهم لما طال انتظارهم خاطبوني وطلبوا مني الخروج فلما لم أجبهم كسروا الباب واقتحموا الحمام فوجدوا الماء ينهمر والدراعة معلقة والسقف مخترقا؛ فكانت الطامة الكبرى ولم يتركوا منزلا فيه مظنة إلا اقتحموه تلك الليلة وفتشوه. ومن ليلتها بدأت عمليات بحث على طول وعرض الجمهورية عني وعن بقية الرفاق المطلوبين وكانت خلية المهمات الخاصة بقيادة الرفيق بدن ولد عابدين بالمرصاد في مواجهة جميع أجهزة الدولة إلى أن صدر قانون العفو العام فخرجنا من جوف الأرض أعزة منتصرين ومرفوعي الرؤوس
الهارب المطلوب يجوب القفار على راحلته ويبحثون عنه فى كل مكان !
وعن رحلة الخروج من انواكشوط، فقد قام الرفيق محمد سالم ولد العتيق رحمه الله باقتناء جمل مزود بلوازم السفر بواسطة أخيه محمد مختار ولد امح رحمه الله. وفي إحدى الليالي أخذني الرفاق إلى راحلتي ورفيقي في السفر السيد محمد الأمين ولد حماد الذي ينتظرني خارج المدينة، فتوجهت ثاني اثنين نحو روصو التي وصلنا ضواحيها بعد ليلتين ويوم من السير الحثيث دون أن نتعرض لأي خطر. كان مظهرنا لا يوحي إلا بأننا بدويين مسافرين على جمل. وكان ذلك عاديا جدا يومئذ. وفي ضاحية روصو استقبلني الرفاق فأنزلوني في دار أسرة صديقة بانجربل، وعاد رفيقي بسلام إلى انواكشوط. وبعد ليلتين أخذوني فجرا إلى ضفة النهر حيث عبرنا في مجموعة إلى الضفة اليسرى فودعني بعضهم وسافر معي بعض إلى سانلويس. وهناك التحقت بجماعة صيحة المظلوم بقيادة الرفيق الطالب محمد ولد لمرابط وعضوية الرفيقين عبد الله ولد إسماعيل والإمام شريف. مكثنا فترة في گت اندر، ثم انتقلنا إلى بخنباي في كنف السيد الشاش الذي أجرنا حانوتا من داره وبدأنا نمارس التجارة. وبعد بخنباي انتقلنا إلى سندونة التي بقينا فيها حتى عدنا إلى انواكشوط بعد سنة”.