“الحملة الدائمة”../ محمد فال ولد بلال
على خلاف ما يتصوره البعض، فإن ظاهرة “الاحتشاد” و”الازدحام” و “الكرنفالات” ليست مركة موريتانية خاصة، ولا صناعة للحزب الجمهوري في عهدنا نحن. بل هي نتاج أمريكي في الأصل ضمن ما يسمى ب”الحملة الدائمة” التي تمّ تأسيسها وتصديرها ثقافةً وممارسةً وسلوكًا منذ عشرينيات القرن الماضي إلى العالم كافة. بعض الدول استطاعت رفضها والاستغناء عنها، وبعضها استطاع تطويعها والاستفادة منها، و بعضها – خاصة في إفريقيا – عجز عن تجاوز المظاهر والقشور، و اكتوى بنارها.
و رائد هذا المجال هو إدوارد بارنيز (Edward Barnays)، ابن شقيق العالم والمرجع التاريخي في علم النفس سيغموند فرويد (Sigmund Freud). فهو أب “الترويج” الأمريكي الذي هو أصل فكرة “الحملة الدائمة”. وضع بارنيز الأسس النظرية لهذا المفهوم في ثلاثة كتب مشهورة، هي: “بلورة الرأي العام” و “الدعاية” و “هندسة الموافقة”. وطوّر علماء الاتصال والاعلام والتسويق من بعده هذه الفلسفة لتصبح نمط تخدير و/أو حكامة منتشر عبر العالم.
و الهدف الرئيسي منها هو السيطرة على الساحات والميادين والعقول والرأي العام و “الشارع” سواء تعلق الأمر بالسياسة أو التجارة أو الحرب أو السلم أو الرياضة أو غير ذلك.. إنها تعنى بالترويج لفكرة أو أغنية أو تلميع مركة حذاء أو حمالة صدر أو ساعة يد أو سيارة أو كتاب، الخ…ومن جملة أغراضها ووسائل نفاذها إلى عقول البشر أن تحل الصورة محل الواقع، ويحل الشكل محل الجوهر، وتحل الشعوبية محل الشرعية أو بالأحرى تؤسس لها. وعلى هذا النحو، يتحول كل شيء إلى صورة مُصنّعة و مُفبركة.
وفي مجال السياسة، فإن نتائجها أشد بأسًا وأكثر ضررًا منها في المجالات الأخرى، حيث تصبح “السياسة” – بالمعنى التقليدي للكلمة – لا معنى لها ولا مكان؛ ذلك أنّ الحملة الدائمة – قبل وأثناء وبعد الانتخابات – تؤدي غالبًا إلى تدهور الأحزاب و”الآليات” السياسية التقليدية والثقة في السياسيين. وحين تغيب الأحزاب والمجتمع المدني الواعي، لا يبقى من خيط ناظم للناس غير العصبية.. والعصبية تؤدي إلى التفكك والتشرذم، وتقطّع أوصال الوحدة، وتحوّل الأفراد إلى ما يشبه القِطع المتناثرة، والمجموعات إلى ما يشبه القطعان. والقِطع المتناثرة لا تبني قوة، والقطيع لا يحقق شيئا غير التدافع والازدحام والنطاح على فَم البئر . والمرء في هذه الحالة – إلاّ من رحم ربك – لا يفكر بنفسه ولا يهتدي بعقله؛ وإنما يسبح مع العوام وتتجارفه أمواج المسايرة والتقليد إلى شاطئ النرجسية و التمظهر . فيكون حاضرًا بجسمه لا بعقله، وناطقًا بلسان غيره لا بلسانه..
حري بأهل السياسة وعلم الاجتماع أن يجدوا حلّا لهذه المعضلة، وأن يفكروا ويبتكروا أساليب ومناهج جديدة بعد 20 سنة من محاولة إرساء تعددية حزبية معقولة. كان أهل السياسة في ذلك التاريخ – والمتكلم واحد منهم – يتحججون بحداثة التجربة وأنهم يتعلمون المشي ويخطون خطواتهم الأولى، وأن الجو العام في البلد يطبعه التوتر و الانغلاق، ووو.
أما الآن، فليس أمام أهل اليوم سوى الإقلاع، وطي صفحة “الحملة الدائمة” وما يلازمها من تطبيل ورقص وغوغاء أثبتت التجربة إفلاسها. والجميع يعلم أنّ الرئيس لا يريدها، والحزب لا حاجة له فيها، والفاعلين لا يؤمنون بها، والموالاة تزعجها، والمعارضة لا ترضى عنها، والرأي العام يسخر منها.. لماذا البقاء عليها؟