عن الاستقرار / د.سيد احمد ولد بابه
إن الاستقرار في كل بلدان العالم مبني على توازنات حساسة… و إن أي إقدام على أي قرار خطأ أو أي إهمال لأي ثغرة و لو بسيطة، قد يؤدي إلى عواقب وخيمة… قد تفقد بلدانا بأكملها، كل مكتسباتها التي تنعم بها الآن… و إلى الأبد !
و سأذكر شاهدين على ذلك من تاريخنا المعاصر.
الشاهد الأول يتعلق بالسياسة و الحكامة :
إن انهيار الاتحاد السوفييتي، ذلك البلد العظيم الذي ملأ الدنيا طوال كل القرن العشرين، كان بسبب أخطاء في الحكامة. كاعتماده في الاقتصاد على ثروة النفط و قد تدنت قيمتها كثيرا لفترة طويلة حتى تسبب ذلك في تصاعد أصوات متذمرة لم تكن معهودة من قبل. الشيء الذي أدى إلى اعتماد أسلوب جديد هو الآخر على السياسة السوفيتية و هو شراء ذمم نخب القوميات المتذمرة و هذا ما أدى إلى سقوط هيبة الدولة قبل أن تنهار بشكل مذهل في زمن حكامة كورباتشوف الغريبة…
و لسقوط الاتحاد السوفييتي تداعيات كثيرة مازلنا نعيش فيها إلى يومنا هذا… فقد كان ذلك البلد بمثابة جدار سميك يؤمن صمود دول كثيرة منها الحليفة كيوغسلافيا التي تمت بلقنتها بسرعة و بلا رحمة إلى ست دويلات ضعيفة و منها المستفيدة من الوضع القائم أنذاك كدول الشوكة في محيطنا العربي التي خرجت هي الأخرى من التاريخ للأسف في عملية استغفالية ذكية جدا، تاركة خلفها خارطة عربية غارقة في انبطاح محزن…
الشاهد الثاني يتعلق بأهمية احترام البيئة :
يكثر الرأي القائل بأن هذه الهزة الكونية المتعلقة بجائحة العصر التي نعيشها اليوم، و التي لم يعرف تاريخ البشرية مثلها أبدا، و التي أيضا، لم تقل بعد كلمتها الأخيرة، هي الأخرى من شواهد الإخلال بالتوازنات الحساسة للاستقرار (الكوني هذه المرة). و يعتقد بأنها من مخلفات الاحتباس الحراري الذي يسببه انبعاث غازات مصانع الدول القوية في النصف الشمالي من الكرة الأرضية و يتضرر منه الفقراء قبل الأغنياء… و قد تأكد فعلا أن معدل الحرارة على ظهر الأرض يتزايد تدريجيا منذ بداية الثورة الصناعية الأولى في القرن الثامن عشر. و تأكد أن ذلك تسبب في تغيير في وجه الحياة يتجلى في تزايد الكوارث الطبيعية الرهيبة من فيضانات و زلازل ( اتسونامي) و في تمدد التصحر المتواصل، و في انقراض بعض الكائنات الحية و تحور أخرى و في تفاقم الأمراض و الأوبئة…
أوردت هذين الشاهدين على أبعادهم الضخمة (البانورامية) لتتبلور صورة كبيرة توضح بكل جلاء خطورة القرارات الخاطئة مهما كان مصدرها و مهما كان الهدف من ورائها، على استقرار و أمن الشعوب في جمعها و و في مفردها. و إن استثنينا الأضرار البيئية، خوفا من الإطالة، فإن بقية الأخطاء التي جاء ذكرها في هذين الشاهدين يمكن لكل بلد علاجها إن توفرت إرادة جادة في ذلك. و يتعلق الأمر ب :
١. العجز عن بلورة هوية وطنية قوية و متجذرة عبر مدرسة جمهورية حقيقية متكاملة و مهابة يعظمها و يقدسها الجميع…
٢ الإخفاق في اعتماد إقتصاد قوي متنوع و متجدد يحقق اكتفاء ذاتيا في كل مستلزمات الحياة الضرورية لكل المواطنين و يؤمن مكانة اقتصادية محترمة للبلاد في وجه بلدان العالم الأخرى.
٣. إهمال العمق الأمني و الامتداد الاستراتيجي لكل بلد. فالإتحاد اليوم، قوة أكثر من أي زمن مضى. و البلدان المتفردة بنفسها معرضة إما عاجلا أو آجلا لما لا تحمد عقباه…
و بالنسبة لبلادنا خصوصا، و في انتظار ذلك العلاج، فإن على أهل الشأن و معهم في ذلك كل النخب مهما كانت أطيافهم الاجتماعية و مهما كانت مشاربهم “الفكرية”، أن يتخذوا العبر اللازمة، لاسيما، و أن دخان المساحات المتضررة على سطح الأرض مازال يعج في كل مكان، و يبتعدوا عن كل ما من شأنه المجازفة بمصير بلدهم المسكين و شعبهم الطيب .. فطير في اليد خير من ألف في السماء…!
كما ينبغي أن نعلم بأنه إن نجت بلادنا مرارا من مخاطر مرت بها منذ نشأتها فليس معنى ذلك أنها محصنة من أي مكروه… فالظروف متغيرة و ظروف اليوم تتطلب حذرا أكثر نظرا للمعطيات التالية :
١. دوليا، نحن في مرحلة مخاض عالمية جديدة مضطربة، يتصارع فيها الغرب المتحكم مع مارد صيني قادم لا محالة. و هذه المرحلة تفتقر إلى الأخلاق السياسية، يسود فيها جشع غير مسبوق من أجل تكديس الموارد و رغبة قوية في توسيع النفوذ. و ما الفوضى العجيبة المستتبة منذ سنوات في دول الخط الخلفي إلا دليل على ذلك…
٢. إقليميا : طبول الحرب بدأت تقرع من جديد خلف كل حدودنا البرية (أو جلها) و لا يبدو أن ستائرها ستسدل قريبا …
٣. داخليا : يتواصل استحفال الترابط القوي بين المسؤولين عن الجمهورية و أعيان القبائل في تسيير البلد و هو “الترابط” الذي بدأ منذ مؤتمر ألاك سنة 1958 و الذي كنا نعتقد أنه ترابط مؤقت تستوجبه ظروف النشأة… أما و هو يستديم فإن ذلك يفتح الباب على مصراعيه لتزايد المعتقدين بأن البلاد ما هي إلا كعكة على طاولة الكبار من أهل النفوذ… و يزيد تذمر الأفراد العاديين، الحالمين بالتساوي في الحقوق و في الواجبات و أمام الفرص في وطن مبني على مؤسسات قوية حامية للجميع…
في وجه ظروف كهذه، لابد أن نعترف بأننا لسنا محصنين. فنحن شعب يعيش أساسا في مدينتين ساحليتين (انواكشوط و انواذيبو) تولي كل منهما ظهرها لبقية البلاد، بفضل إمداد متواصل و مضن عبر البحر و البر و الجو.. و أقرب بئر منا تبعد مآت الكلومترات لمن يملكون سيارات و أسابيع طويلة من المشي على الأقدام لمن لا يملكونها…
لذا إن حدث أية اضطرابات لا سمح الله، إثر خطأ تسييري أو إثر سوء حكامة أو حدث أي تخريب في خطوط امدادنا بالماء و الغذاء فستكون العواقب كارثية بكل المقاييس بالنسبة لنا…!
عليه، من الحكمة، و وضعنا الديموغرافي على هذا الإعوجاج، الذي يؤكد أن بوصلة مشروع بلدنا الحديثة أصلا، بوصلة استخراجية موجهة إلى ما وراء البحار، أن نسارع بسياسة أمنية رشيدة تتمثل في تشييد ممرات حيوية تربطنا بمنابع الحياة البعيدة داخل أعماق بلادنا، مثل النهر في الجنوب و المراعي في الشرق و الواحات في الشمال عبر تشييد نقاط ماء و تموين متقاربة هذا… قبل أن تكتظ الديموغرافيا في مدينتينا الكبريين و قبل أن نعجز عن كبح جموح أنفسنا النرجسية الأمارة بالسوء و الميالة إلى إيقاظ شيطان الفتنة اللعينة…