صراعات أهل المنكب : فَتِّشْ عن الغِل../ ناجي محمد الامام
الصراع أو الخصام، على الأصح، في المنتبذ القصي، لايتبدل جوهريا، فعلا ورد فعل، يشتعل لأتفه الأسباب، فتظنه حرب قرنٍ، ويخبو فتخاله تلاشى وهو في الضغائن باق.
ولأن طبيعتنا عصية على التغيير، لم يتغير كبير أمرٍ بعد قيام الدولة، ولا بعد ما مر به المجتمع من خضات خفيفة أو عنيفة، وبقيت خلاياها نائمة في العقليات التي تتبردع بانتماء عقدي أو سياسي أو علمي لا يلبث أن يذوب عند أول احتكاك بالآخر المخالف أو المختلف، فالماركسي والقومي والوهابي والأصولي والوصولي والليبرالي، مع استثناء قليل، يتفاعل مع القضايا، حتى غير المحلية، بعقليته المتوارثة لا بالمكتسب الفكري.
ولخصام أهل بلاد السيبة ثلاثة مستويات لا يخرج عنها إلاليعود، وهي تنازليا:
1 ـ الشر
2 ـ الشوفه
3 ـ الفقائع
1- الشر
يعتبر المستوى الأول مستنقع “الشر” كما يدل عليه اسمه بالفصحى ، و يصل إليه طرفان (أفرادا أو جماعات) بعد تراكم الثالث (الفقايع)وتحوله إلي الثاني(الشوفه) ، ويسمَّى المستوى الأول، إذا تعلق بالأفراد(هْجار) أي هجران أو هجر؛ و رغم ادِّعاء البعض الثقافة الدينية واتباع المُثُل التي تحرم هجر المسلم لأخيه أكثر من ثلاث ليال، فإن هذ الهجران الفردي منتشر بين البيضان انتشارا فظيعا بسبب تفشي أمراض النميمة و الكذب و الفحش وخفر الذمة و أكل لحم الغائب، لا يسلم منها إلا من رحم ربك ، وهم قلة.
وأفظع ما يكون “الشر” عندما يتحول إلي نكايات ومكر ودسائس وحيل يعتبر المجتمع القبلي البيضاني جذيلها المحكك ، وخبيرها المعتمد، ذلك أنهم لسوء حالهم المادي و البشري قليلا ما يلجأون إلي الحلول العسكرية، وإذا فعلوا ،مضطرين ،لم يثخنوا،و كثيرا ما يلتقي الجمعان فتتطاير شظايا و يجرح أفراد ونادرا ما يموت أحدٌ، ولكن كل طرف يعود إلي أهله بفوز عظيم ينسج حوله الأبطال بالخيال الشعري و النثري ما عجزوا عن فعله بالقنا والقسطل.. يقول المؤرخ الإستعماري بول مارتي: إن البيضان اختصاصيون في الحروب غير المحسومة..
ولكن الضغائن والدسائس تُتَوَارثُ وتعمر القلوب علي مدى التواصل اللغوي داخل المجتمعات كيفما كان مستواها العلمي، كما هو قائم مثلا بين الفرنسيين والإنجليز، وبينهم والألمان، وبينهم والبلجيكيين، ولم تُفَدْ الديمقراطية شيئا في جوهر الأمر، وما زالت الأحكام المسبقة و النعوت المقرفة تغذي المسكوت عنه بينهم، وتلك أمم… أما البيضان فيطبقونها في مجتمعهم المفروض أن يكون واحداً؛
وقد عانت دولتا الإستعمار(!)والاستقلال الأولي من استشراء مفاعيله السلبية المضادة لهرمية الدولة الحديثة و هيبتها، وروح المواطنة وتأبيدها بديلاً للقبيلة والعشيرة و الجماعة.
ومن غرائب (الشر) أنه يقوم ،أيضا، داخل الجسم القبلي الواحد فيقطع الأرحام والأوصال، ولعله أشرس (الشرور) بسبب الصراع (الحميم) علي المرجعية الواحدة والشرعية المشتركة مما يحوله إلي عملية(كسر عظم) وتلك أفدح موبقات الغرائز..
2-الشوفه
وهي المحطة الثانية فيما يَشْجُر بين بيضانيَّيْن، وسببها غالباً، مستصغر التصرفات المقصودة للإيذاء وإذكاء الحقد والحسد الخبيء، ويلعب فيها النموم دورا كبيرا..
و النموم(الجاسوس) ، في تاريخ المنكب البرزخي، احتل دائما موقع صانع الأمراء و مشعل الحرائق ومؤسس الطابور الفرنسي و الهولندي و البرتقالي الخامس منذ احتل البرتقاليون جزيرة “تيدرة” بحوض “أم أراقن” يطاردون الغرناطيين ،إلي اليوم
وهذه المرحلة من (الشنآن)تنتهي بالتصالح بعد الصرب(جمع صربة وأصلها من السرب) و الترضيات ويلعب فيها الحلفاء و الأقرباء و المنتفعون أدوارا معتبرة.. وقد تنتهي إلي احتدام “الشر”.. وهو الاغلب..
2- الفقائع
وأصلها من فعل (فقع) أي فطر أو تفطر قلبه من فعلة أو قولة أو إيماءة، وقد تسمي(آجلاج) وأصلها من القلق، (وهي من الكلمات الحسانية القليلة التي انقلبت قافها النجدية إلى جيم مصرية/صنعانية ثم إلي جيم شامية/بيضانية.. والشائع المعروف رغم ندرته وجود الجيم المصرية/الصنعانية في كلمات منها الجاشوش:”الجؤشوش” وتجر:”تقر” و أزعج:”زعق”…
وهذه المرحلة الأولى من تنامي القلق البيضاني و”رُبُوِّ” الضغينة بالتراكم أو التلاشي وحظ الحالتين متقارب ،لكنها من ملح التعايش العادي…
ومع تطور وسائل التواصل والإتصال تزايدت في مجتمع البيضان كل هذه المصائب بالتناسب مع سرعة تطور وسائل التزوير و تسخيرها للوقيعة والإيقاع فكأنما خلقنا لنستخدم التطور البناء لهدم مجتمعنا: فكم من بيت تهدم باستخدام الفوتوشوب(الصورالمركبة)وكم من صداقة صافية رائقة تحولت الي عداوة بالهاتف المحمول وفصوص التسجيل المرئي..سواء في ذلك الساسة والمتدينون والاقرباء والحلفاء وأصحاب المهن.. من مختلف الشرائح و الأعراق.
بهذا اختلفنا عن من في الأرض من الناس ،وانفردنا بما لا يقره سلوك قويم عند أحد من العالمين: فترانا نفعل بالأجنبي الأفاعيل خلال المعاملات تبادلا وتداينا ودراسة وعملا، ونظن أن وُقوعه في حبائلنا من شطارتنا و ذكائنا متناسين أنه من سوء فهمنا للحاضر وسوء تقديرنا للمستقبل..
إن ممارستنا لما لا يخطر لشريكنا الأجنبي علي بال ، ليس غباءً منه بل تربية مدنية ورثها و عاشها في بلده ، فهو تحت طائلة القانون إن زوَّر أو كذب أو سرق ،أمَّا نحن ففي حِلٍّ من كل التزامٍ إذا دخلنا الوطن، أليسَت الممارسة التي ترفع و تخفض يعبر عنها بمقولة: “اللِّ مْحالِي ألَّا النفشه”..
إن تقدم العقل البشري بالعلم أوْجدَ صيَّغاً أكثر جدارة بالإنسان إذا أراد أن يمكر بأخيه/ العدو، وأبلغ أثراً من “الطرشة” التي اعتبرناها ردة الفعل الأجدر بالرجل الشجاع المقدام ، إنها ما يسميه اللبنانيون” معركة عض الأصابع” التي تستنفد فيها كل اللكمات المادية والمعنوية دون “جرح” أو “دملة” ومن يصرخ الأول هـوالمغلوب!!
…