الهجرة.. والتعليم: جدل مستمر/ أدي ولد آدب
إنّ مفهومَ الهِجْرَة النبوية، والهجْرة عموما، لا ينْبَغِي أنْ يُخْتَزَلَ في السَّفَر المَادي من مكانٍ ، إلى آخرَ، بل إنَّ مفهومَها يتَّسَعُ لكلِّ حركة وُجوديةٍ من المَرْهوب، إلى المَرْغوب، سواء كانا ماديين، أو معنويين، ولو انْعَكَسَ المَسَارُ من المَرْغُوب إلى المَرْهُوب لأصبحت الرِّحْلة تهْجيرا.
وبناءً على ذلك، لا ينْبغي أنْ نَقِفَ ببصَرِنا عنْد مَسْرَد الأحْدَاث والوَقائع، التي رَافقَتْ هذا التحوُّل التاريخي، بل يجبُ أنْ ننفُذّ ببصيرَتنا إلى الأبعاد الأعْمق، إذْ أنِّ الرحْلة الروحيةـ والسَّفَرَ الفكري، والانتقالَ العقدي، والتحَوُّلَ المَعْرِفِي، كُلُّها حَصَادٌ رَمْزي، أهَمُّ بكثيرٍ من ذلك المَسْرَدِ الوَقائعي المَألوف، مما يعْني أنَّ النتائجَ تفَوَّقَتْ بعيدا على الأسْبَابِ، فالهِجْرَة العَمُودِيَةُ عبْر مَدارِجِ بِنَاءِ صرْح الإنسانية، لا تُقارَنُ بالرحْلة الأفُقِية في الفضاءاتِ المَكانية، ومَسافة “الهجرة” عِدَّةَ أيامٍ بيْنَ مَكَّة، والحَبَشَة، أوَّلا، وبيْنَ مكة ويثْرِبَ ثانيا، وحتَّى “الإسْراء” ساعات من الليل، بين مكة وبيْت المَقْدِس، “منَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأقْصَى”، كلّها هُجُرُاتُ، لا تساوي شيْئا من المَسَافَة بيْن السماء والأرض، ساعاتِ “المِعْرَاج”، بل ثواني تَنَزُّلِ الوَحْيِ… المُتَسَلْسُلِ…حَوَالي ثلاث وعشرين سنة..
ولَعَلَّ أهَمَّ معاني الهجرة وتجلياتها هو الانتقال من “الجاهلية”، إلى ا”لقرآنية”، عبر خيط الوصل “اقرأ” بأحْرُفها الأربعة، التي تكْتَنِزُ سِرَّ الحياةِ، وتمْتلِكُ طاقةً عجيبةً لتغْييرِ الواقعِ البائسِ العَنيدِ، فقدْ تنَزَّلَتْ هذه الحُروفُ الأربعةُ، فاتحةً مُبارَكَةً لرِسَالَتِنا الإسْلاميةِ، فكانتْ مُعْجِزَةً كــ “عَصَا” مُوسَى، ضَرَبَتْ جَلِيدِ الجَهْلِ، وسَدِيمِ الصحْراءِ، وعِنَاد البَدَاوَةِ، فحَوَّلَتْها -بقُدْرَةِ قادِرٍ- إلى أمَّةِ حَضارَةٍ إنْسانيةٍ، غيَّرَتْ مَجْرَى التاريخ، في سِياقاتِ الإنْسانِ، والمَكانِ، والزمَانِ، بِشكْلٍ كوْنِي، شامِلٍ، فكانَ (فِعْلُ القِراءَةِ) هو- ربما- أكْبَرُ مُعْجِزَاتِ نَبِيِّنَا عليه السلام.
ومنْ هُنَا نَكْتَشِفُ الخيطَ الرفيعَ الناظمَ بين الهجرة والتعليم، الذين جَاءَا متزامنين، بالصدفة هذه المرة، حيث كان مستهل العام الهجري، بالتقويم العُمَرِي، المُسْتَلْهِمِ لمفْصَلِية مُنْعَطَفِ الهجرة النبوية، في تاريخنا الإسلامي خصوصا، والإنساني عموما، متزامنا مع “يوم المعلم”، الذي كان ينبغي أن نكون أولى به، باعتبار رسولنا الأمي -عليه الصلاة والسلام- هو أكبر معلمي البشرية، وكتابنا “القرآن”ـ أخذ اسمه من القراءة، وأمتنا أمة “اقرأ”، التي كانت أول خطاب تَنَزَّلَ وحيا إلاهيا… لتأسيس الحضارة الإسلامية العلمية العالمية.
غير أنَّ كلُّ هذه التجَلِّياتِ، واجدةٌ مِصْداقَها في التاريخ البعيد، أما اليوم فقد عادتْ أمَّة “اقْرأ” تَحُثُّ الخُطَى .. باتجاه “جَاهِليِّتِها الأولى”، بفِعْلِ تخَلِّيها عنْ” فعْلِ القِراءَةِ”، وإفْراغِ هذهِ “الحُرُوفِ المُعْجِزَةِ” منْ مُحْتَوَاها، حيث تشْهَدُ على ذلكَ نِسَبُ الأميةِ والتخَلُّفِ، في عالَمَنا العرَبي خصوصا، والإسلامي عموما، حتى لَكَأنَّ “اقرأ” نزلت على “اليابان” مثلا….
وهكذا يأتي يومُ المُعَلِّم، في غفْلةٍ من بِلَادَنا، التِّي لا يَعْنِي لها العِلْم والمعلم، الكثير، لكنه-بدون شك- كان وسيكون موضع احتفاء، من طرف كثير من البلاد التي ترى المُعَلِّم ربَّان مَسيرتها وقاطرة تنميتها، مثل اليابان ، التي لا تملكُ من الثروات غيْر العقول ،البشرية، والمعارف، ومثل آلمانيا التي منحتْ مُسْتشارتُها الأولى أكبرَ راتبٍ للمعلم، وعندما احتج كبار الموظفين عليها، قالت لهم: كيف أساويكم بمن علمكم؟
ونظرا لهذا الوضْع المُخْتلّ، أصبحَ كلَّ زمننا “هجْريا”، لكن هجرة معلمينا، وعقولنا وأدمعتنا وعضلاتنا وبطوننا…. إلى أمة “اقرأ” الجديدة… في الغرب والشرق… بعيدا عن ربوع جاهليتنا الأخرى…وحتى لو الْتقَمَنا الحُوت.. فليس وراءنا في أوطننا إلا “حُوت يبلعْ حُوت”.!
مقال في مناسبة سابقة
أدي ولد آدب