الغائبون الحاضرون / الدكتور سيد احمد بابا
أهداني اليوم، أخ عزيز، معدات بث مباشر خاصة بوسائل التواصل الإجتماعي و عبر لي، وقت إهدائه عن رغبته في نزولي إلى ساحة التثقيف الصحي في بلادنا و المشاركة فيها، و تركي لما أكتبه من حين لآخر، من أفكار لها علاقة بالسياسة في هذا الفضاء المفتوح. فأنا طبيب على حد قوله !
قلت في نفسي و أنا أستلم هديته مشكورا، إما أنه يرى في جعبتي من الطب أكثر مما فيها… أو أنه يخاف علي من السياسة و الخوض فيها. لاسيما بعد دخول قانون الرموز الطارئ، حيز التنفيذ.
و استقر تخميني على الاحتمال الأخير..
***
ما لا يعلمه أخي الذي يريدني أن أتحول إلى “مبشر” صحي (أو “منذر” صحي، لا أعرف أيهما أصح)، هو أن السياسة التي يخاف منها موجودة في كل ما هو هام في حياتنا و لاسيما الصحة. و قد هممت فعلا، بأن أقول له بأن السياسة باتت هي نفسها فيروسا خطيرا يتكاثر في كل المجالات و أن الصحة المقدسة بالنسبة له، من أكثر المجالات إصابة به… و لكنني لم أفعل خوفا من أن لا يفهمني. فهو يصغرني سنا…
و لكن، لعله إذا عرفني هنا سيتراجع و لو قليلا عن رأيه و يتفهم محاولاتي المتكررة و إن كانت متواضعة، للمشاركة في تحريك مياه الفكر الشامل الراكدة في بلادنا و الكفيلة الوحيدة، بمساعدتنا في تحقيق توجهات البلاد و تطلعاتها.
***
و لكن قبل أن أبتعد في هذا النص، أود لو تطرقت إلى الصحة وتوغل السياسة فيها بكلمتين مختصرتين قدر الإمكان.
١. عن المنظومة الصحية عموما
إن المنظومة الصحية، بعد اكتشاف العالم الكيميائي Louis Pasteur أول مصل ضد الكلب و بعد حمايته به، لطفل آلزاسي (نسبة لإقليم Alsace) يدعى جوزيف، عضه كلب مسعور أربع عشرة مرة، تحولت من وسيلة متواضعة يتداوي بها الناس إلى ماكنة ضخمة يحتمي بها كل البشر من الأمراض و أضرارها و من شبح الموت المحتوم و مخاوفه.
و هذا التحول، رافقته حقيقة، قوة غير مسبوقة في اعتقاد الناس في هذه المنظومة. و ذلك لدرجة دفعت بعض الكتاب من أمثال Olivier Clerc إلى تسميتها “دين” القرن العشرين.
و هي المكانة المرموقة التي ستحول تلك المنظومة إلى وبال فيما بعد، على البلدان الأكثر هشاشة. فهذا التحول الذي تصادف حدوثه مع نشاط استعماري غير مسبوق سيتخذ من طرف قوى الاستعمار كوسيلة إضافية ثمينة لتسهيل استغلال الشعوب. و هو الاستغلال الذي مازال متواصلا إلى يومنا هذا. و قد ساعدت التكنولوجيا و العلوم كثيرا في ذلك، و مازالت. فتم إرساء و تنفيذ استرتيجيات عملاقة على أساسها، لا يتطابق ظاهرها مع باطنها، و قد تضررت قارتنا الإفريقية المستباحة بالخصوص أكثر من غيرها و على مر أجيال كثيرة من تلك الاستراتيجيات التي زرعت، مثلا لا حصرا، الوهن و الذعر و الشعور بالدونية في أنفس سكانها…و سمحت باستنزاف خيراتها من تحت أقدام أهلها على أحسن وجه.
٢. عن السياسة الصحية في بلادنا
إن الصحة هي أسمى هدف و أكبر واجب لأي دولة في حق مواطنيها. و هي بذلك، محورية في سياسات بلدنا التنموية كما هو حالها كل بلدان العالم، و تتجاوز مسؤوليتها حقيقة، قطاع الصحة الحكومي المعني إلى كل قطاعات الدولة الأخرى و حتى إلي كل مكونات المجتمع المدني.
و نظرا لأهميتها القصوى في أي مشروع تنموي جاد و نظرا لكونها صحة فلذات أكبادنا نحن و ليس غيرنا، لابد أن نعتبرها قطاعا سياديا بلا جدال.و لابد أن نتوقف عن قبول الإملاءات الخارجية فيها – كما هو الحال منذ نشأتنا – أيا كانت مصادرها.
و شركاؤنا الخارجيون المحترمون، بقدر ما هم مدعوون لمواصلة جهودهم التنموية معنا فيها، مدعوون كذلك، إلى احترام سيادتنا في تلك السياسة التنموية الأسمى.
و لا ينبغي أن يعتبروا (أو أن نعتبر)، أن ما يبذلونه من جهد معنا، منحة يمنون علينا بها بقدر ما هو واجب تفرضه عليهم مسؤوليتهم التاريخية في حقنا.
فما كان ليكون حالنا على ما هو عليه من تردي لولا :
– استنزافهم لثرواتنا على مر تاريخ طويل و ما ترتب على ذلك من تفقير مرير لشعوبنا. و يشهد على ذلك، التذمر في الأوساط السياسية الإيطالية المتكرر من سياسة فرنسا في إفريقيا، متهمين إياها بالاستمرار في تففير شعوبها (و هي إذ تفعل ذلك بالنسبة لهم، تخل بمبدأ التنافس الاقتصادي الشريف مع بلدهم و تزيد معضلة الهجرة السريةالتي تلحق بهم أضرارا اقتصادية كبيرة).
– دور مصانعهم الكبرى في الارتفاع الحراري الذي تتضرر منه دولنا الفقيرة أكثر بكثير مما يتضررون هم منه،
– وقوفهم متفرجين إن لم نقل مشجعين، أمام منظوماتنا التنموية المهترئة عموما و خصوصا تلك المهمة جدا، و المتعلقة بالتعليم و الصحة
***
أما بالنسبة للخطاب الصحي في وسائل إعلامنا – ذلك الموضوع الذي تسبب لي في كل هذه الكتابة – ففيه ما يقال.
إن خطاب الأطباء في وسائل إعلامنا، حقيقة، لا يقيد نفسه بضوابط تحمي الناس من تأثيراته السلبية و لا يراعي نفسية المواطنين الحساسة اتجاه كل ما له علاقة المرض و الموت.
و الخطب الطبية في وسائل إعلامنا نوعان. نوع يحول آلام و أحزان الناس إلى أرقام جامدة لأغراض لها علاقة بالمال و الأعمال و نوع يلعب على أوتار التهويل و الخوف في الناس من هول خطر صحي فتاك محدق..
و لكلا هذين الخطابين المتباينين انعكاسات سلبية على صحة المواطنين إن هما تركا دون رقابة و قيد. فبالنسبة لتحويل الصحة إلى أرقام غير محقق منها فذلك قد يكلف ميزانية الشعب الفقير أصلا، أموالا طائلة لا مبرر لها.
و أما بالنسبة لتوجيع القلوب و إثارة القلق و الذعر و الخوف في أنفس الناس فذلك قد يتسبب في ضرر على الصحة العمومية أخطر بكثير مما نعتقد، كالزيادة المعتبرة في عدد الأمراض المزمنة و كذلك الزيادة المعتبرة في عدد الوفيات المبكرة…
و ما لا يعلمه العامة من الناس حقيقة أن إثارة القلق و التوتر و الخوف في الشعوب أخطر بكثير على صحتهم من كل جراثيم العالم مجتمعة…
و أبلغ وصف لخطاب الطبيب على شقيه المذكورين أعلاه، هو ما جاء به Jules Romain في كتابه “Knock”، الذي وضح فيه كيف يستفيد الطب و الطبيب من تخويف الناس من الأمراض، حقيقية كانت أم خيالية، لإخضاعهم و التحكم في أموالهم التي اكتسبوها من عرق جبينهم .
و لعلنا، على مستوى دولتنا، نتغاضى عن انتشار هذا الخطاب، لأنه يجلب الناس بسهولة بالغة إلى وسائل الإعلام، معطيا بذلك فرصة ثمينة لتمرير ما تحتاجه السلطة، في وعينا من أجل أن تظل حاضرة في كل بيت من بيوتنا و في عقل كل فرد من أفرادنا.
***
و أما الكلام عن المعارف المهنية عموما في وسائل إعلامنا، فذلك لا يعد أولوية وطنية في ظرفنا الحالي.
إن المعارف المهنية أمور شكلية و ثانوية جدا بالنسبة لمن هم في طور بناء أوطانهم و لا يليق بأبناء بلد، ينتظرهم ذلك الجهد الكبير أن ينشغلوا بهكذا أمور.. لاسيما أن المعارف المهنية لا تعتبر صراحة، لا ثقافة و لا وعيا و لا فكرا. و لا يليق حقيقة، بالإنسان الذي خلفه الله في أرضه و أعطاه أبعادا فكرية لا تتناهى أن يقزم فكره فيها.
و المهنة أمر شخصي و هي حرفة يستند عليها الإنسان من أجل أن يقف على سواعده ليشارك مفاخرا في حركة التاريخ الدوارة. و حتى تتضح الصورة أكثر، لنتخيل جهازا كهربائيا منزليا ؛ المهنة فيه هي سلك التغذية الكهربائي و الإسهام في التاريخ فيه، هو الخدمة التي يقدمها ذلك الجهاز وقت التشغيل.
و الدول التي لم تفهم أهمية الإنسان في أبعاده العظيمة، في هذه الدنيا أو التي تعلمها و لكنها تكبحها لأمر لا يعلمه إلا هي ، تفوت على نفسها مكانة محترمة لها بين الأمم المتقدمة و تضيع طريقا آمنا يقود إلى مجد محقق لجميع أفراد شعبها… فلم يعد خفيا على أحد أن الثروة الحقيقة ليست ما في جوف الأرض و ما في في بطون البحار، بقدر ما هو ما في همم و حرية من يسيرون بعقولهم على أديمها.
على كل، عجبا لنا، ففي الوقت الذي ينصب خط التحرير الإعلامي في الدول المحترمة على كل ما بوسعه تحقيق الرفاهية و السعادة لجميع أبنائها، ينصب اهتمام الإعلام في بلادنا على ما يريده الأطباء و الفقهاء و ممجدوا الحكام…
***
و فكر الإنسان الحر السليم حقيقة، ماكنة من العطاء لا تنضب. إنه ماكنة تسعى بصدق إلى الخير لكل الناس، بكل مهنهم و كل ثقافاتهم.
و هو كذلك، ذلك الشيء الذي يوجه الحشود البشرية لما فيه أمنها و ازدهارها… فالمعلوم به، أن تلك الحشود البشرية “إن تركت على نفسها، فلا هي معنية بشيء و لا هي مسؤولة عنه” على حد وصف Carl Gustave Jung، لها، الطبيب و الكاتب السويسري المعروف.
إنها الحشود التي يجتمع فيها الشىء بضده : فيها مثلا، المستنيرة قلوبهم و المطموس عليها، فيها المتسلطون على الناس و المتسلط عليهم، فيها الفقراء و الأغنياء، فيها الوطنيون و العملاء…
و هي الحشود التي يجتمع فيها كذلك، التأئهون و المتسيسون و الحقوقيون و النقابيون و العنصريون و المتطرفون و المعتدلون إلى آخر اللائحة…
و هي الحشود التي يجتمع فيها أخيرا، أطيافا سوسيو-إقتصادية متباينة جدا : كؤلئك المحسوبين على المناجم الكبرى (سنيم و تازياست مثلا) و أولئك. المحسوبين على أمن البلاد و العباد و أولئك المحسوبين على تسيير الدولة – بالنسبة لهؤلاء، تستوقفني ثيابهم، و يخيل إلي كلما رأيتهم في بدلاتهم السوداء في ترابنا الطاهرة أني أمام أجانب يعيشون بين ظهرانينا. و كأنهم تلك الكتيبة الأممية النيبالية التي تضررت منها دولة هايتي أيام زلزال 2010 – و الطيف الأخير، فهو المشكل للمتروكين في فضافضهم، على حساب أنفسهم تحت رحمة رب كريم.
و كل هذه الأطياف، متباينة في ما بينها بدرجة تجعلك تعتقد أننا خمس دول في دولة واحدة…
فمن لإصلاح كل هذه الفسيفساء بالله عليكم، مع الله غير أبنائها الأحرار البررة الذين نور الله قلوبهم و أبصارهم ؟
***
هذا و يجب التنويه على أن الإنسان الحر الي خلق للإسهام البناء الجاد، لا يمكن أن يحترف فن الحربائية السياسية و لا يمكن أن تكون له علاقة بالتسيس القائم الآن في بلدنا. ففكر الأحرار أنظف و أشرف من أن ينخرط في لعبة سياسية غريبة ‘أحرقت فيها محطات كثيرة. تلك اللعبة التي أعدها في La Baule الرئيس افرانسوا ميتران F. Mitterrand سنة 1990، و ذلك بعد أشهر قليلة من سقوط جدار برلين و زوال الخطر الشيوعي على النفوذ الاستعماري في إفريقيا و جنوب شرق-آسيا و كذلك بعد، خروج معظم خريجي مدرسة وليام بونتي William Ponty السنغالية من رؤساء من بلداننا…
و هذه اللعبة الغريبة هي تلك الديمقراطية الشكلية التي لا تكترث بالحريات الأساسية و بحقوق الإنسان و لا تكترث بانسيابية التناوب في تمثيل الشعب و لا تكترث بوجود قطبين سياسيين قويين يتمثلان في الأغلبية الحاكمة و المعارضة الموازنة و لا تكترث بوجود حركة فكرية و ثقافية في البلاد… إلى آخر اللائحة.
و من الإنصاف أن لا توضع مسؤولية ذلك العجز كله، على عواتقنا، فنحن بلد مازال في طور النشء. بلد، أهله مذهولون عن ماهيتم الحقيقية : لم يقتنعوا بعد بالدولة كبديل لقبيلتهم و لم يبذل أحد من أهل الدولة جهدا كافيا من أجل مساعدتهم على الاقتناع بها و بمواطنتها البديلة…
كما أنه من الإنصاف أن لا نحمل الديموقراطية كل المسؤولية عن ما صارت إليه في بلداننا، فالديموقراطيات التي لابد أن تحاط بجدار عازل من الحديد لا تحب الفراغ : إن لم نملأها بالمبادئ و القيم، تمتلئ هي تلقائيا بالجشع و الطمع اللذين يجعلان من البلدان الكريمة كعكا يتقاسم بهلع على موائد الخيانة أو بقر يتنابش بلا رحمة، في مستنقعات الضباع…
***
هذا و يجب أيضا التنويه على أن الإنسان الحر المعطاء، هو ذاك الذي يبيت على الطوى دون المساس بمبادئه وقيمه بل و يفديهما بدمه و بروحه إن هم تعرضا لخطر… و بذلك فهو يستطيع أن يكون كل شيء إلا تاجر أوطان و لا غراب إن امتعض أشد امتعاض مما يقوم به بعض المثقفين و المتعلمين من بني جلدته في هذا العصر، من متاجرة بالقيم و المبادئ و بحقوق الناس معهما… و حتى بالموارد المحدودة التي لا نملك بديلا عنها.
و هي المتاجرة التي تتم في وضح النهار، في سوق “ماكيافيل” الخطيرة التي تعج بشبكات انتهازية عالمية وقحة، تتحكم فيها مؤسسات مالية عملاقة، لا تعرف أي حدود و لا أية سيادة و لا أية رحمة…!
حقيقة، إنه لمن المؤثر جدا، خروج المثقفين و المتعلمين عن مسارهم التصحيحي النبيل الأصلي. فقد كانوا قبل هذا، رجال عظماء يضحون بأنفسهم من أجل ما فيه الخير لمجتمعاتهم، وذلك بالإسهام في بنائها و الدفاع عن القضايا العادلة فيها. و كان الكاتب الفرنسي E. Zola نموذجا من أولئك “المثقفين-الرجال” لما كتب رسالته الشهيرة و الجريئة (J’accuse) الموجهة لرئيس فرنسا عبر جريدة محلية إسمها الفجر، من أجل العدالة في حق ضابط لا تربطه به قربى و لم يوكله على نفسه أبدا. و هو الضابط دريفيس الذي أبعد ظلما و عدوانا عن ثكناته و نفي بعيدا عن ذويه في جزيرة الشيطان “الخرايبية” المخيفة. و كانت تلك الرسالة سببا في تحريك الرأي العام و إعادة ذلك الضابط إلي عمله و ذويه و حقوقه…
هكذا عرف المثقفون لدى العامة من الناس. كانوا جنودا للحق على الأرض لا يخافون لومة لائم فيه و كان ذلك لقرابة قرن من الزمن، قبل أن تتغير الأحوال و يأتي مثقفون جدد لا يعنيهم مجتمعهم بشيء… كل همهم هو أنفسهم… أم أنه تشابه علي المثقفون مع السياسيين ؟
على كل، حمدا لله مازالت ثمة بقية أحرار متمسكين بالبوصلة الصائبة، يقاومون… في انتظار عودة عصر المثقفين الذهبي… عودة الرشد و الألق و الكبرياء لكل النخب الأفاضل …
***
هذا و يجب أيضا التنويه على أن الإنسان الحر، يبني مواقفه على أساس رؤية بانورامية عالية و على أساس وعي تام بقوة ترابط كل عناصر الوجود فيما بينها.
إن هذا ما يجعله، رغم ما حباه الله من أبعاد لامتناهية و ذكاء لامثيل له في كل مخلوقات الله الأخرى، لا يعتبر نفسه في هذا الكون الكبير إلا نقطة صغيرة، يشارك ببصيصها العابر في رسم لوحة منيرة متجددة و هي اللوحة التي ستصغر لتكون بمثابة لمسة خفيفة جدا إذا ما قورنت بحجم مجموعتنا الشمسية العظيمة التي تنحني هي الأخرى رغم جبروتها أمام عظمة المجرة الأكبر لتكون مجرد نقاط من غبار متناسق مع نفسه راسما في فضاء الله سبيلا من العجاب الأبيض (La voie Lactée)… و لله في خلقه شؤون !
و شخصا يعي هذه التراتبية العمودية اللامتناهية و هذه الترابطية الأفقية التي لا يقوى عليها شيء غير خالقها، لن يفرط أبدا في وطنه من أجل مصالحه الشخصية… و لن يفرط أبدا في مستقبل أبنائه المتجدد من أجل حاضره الآني الفاني…لأنه إن فعل فهو بكل بساطة، يضحي بالوجود من أجل العدم !
***
إن ذلك الإنسان الحر الذي ذكرته مرارا في الفقرات أعلاه أخي الغالي، من فئة من الناس، تفتقت مشاعرهم و أحاسيسهم، في بداية الصبى، على انبهار شديد من هذه الحياة الجميلة. و لعل ذلك كان في أحد ضحوات الله اللطيفة في فصل من فصول الخريف في إحدى مروج الله المبللة بالندى؛ بين خراف صغيرة ثلجية اللون و وسط أشجار مرقعة بثمار فاقعة اللون بطعم الجنة… في مشهد من الأفراح تتقطعه ضحكات فيها تعبد و جمال…في ذلك الضحى الذي كانت الأحلام فيه عظيمة و كأن تشييد قصور ضخمة من الزهور و بناء سفن عملاقة قادرة على القفز من فوق المحيطات السبع لاستجلاب خيرات الدنيا أمر لا يتطلب إلا أن نكبر قليلا…
هؤلاء الناس أبرموا اتفاقية بخدمة الحياة ما حييوا في تلك اللحظات أو تلك اللحظة التي تمثل بالنسبة لهم ما يعرف في ثقافات الغير بالبيك بانك Big Bang. و هي اللحظة التي تحتوي قلب الحياة و مصدر إشعاعها…
إنهم المغيبون الموجودون الذين يسكنهم حب لا يقاوم في المشاركة في بناء أوطانهم و في توطيد أمنها و في السهر على ازدهارها… و ذلك بعرقهم و بعلمهم و بفكرهم…
و هؤلاء، الأوطان بالنسبة لهم شيء لابد أن يكون… فهي كالحرية تماما، إن سلبت واقعا تكون حقيقة في الخيال…
و أنا، في هذا الفضاء المفتوح و في وسائل إعلامنا الموقرة و في كل مكان و مادام بي بصيص متقد، أحد هؤلاء الناس السائرون بشجون صادقة في طرقات هذه الدنيا و الحاملون أنفسهم في أكفهم لا لشيء إلا من أجل الاسهام في بناء حياة رائعة، آمنة و مستديمة في هذه الربوع التي عرفت أجدادنا على أحسن حال و ستعرف أحفادنا بخير إن شاء الله…