«البيظان ما يبنو الدول»!–/ محمد المنى
في مناقشة على هامش مؤتمر خارجي قبل فترة من الآن، سألتُ إعلاميةً من أبناء مدينة العيون في الصحراء الغربية، وهي مهتمة جداً بالشأن الموريتاني وعلى اطلاع بمجرياته: ما رأيك في الحالة الموريتانية؟ وكيف تَرينَ مستقبلَنا في المديين المتوسط والبعيد؟ فأجابتني برد مقتضب للغاية: «البيظان ما يبنو الدول». *****
مَن يقرأ كتاب بول مارتي، «القبائل البيظانية في الحوض والساحل الموريتاني»، يجد في خاتمته توصيات واضحة لصانعي قرارات الدوائر الاستعمارية، مفادها أن لا فائدة من أي محاولات لإنشاء مدن ومراكز حضرية أو مساعي لإقامة حياة عصرية في أرض البيظان، باعتبار أنهم غير مؤهلين للمدنية ونظام الدولة الحديثة.****عمِلتْ السلطاتُ الفرنسية حرفياً بمقتضى توصيات بول مارتي، فلم تقِم مدناً ولا بُنى تحتيةً (مادية وإدارية) لعصرنة هذه البلاد، بل على العكس من ذلك، ظلت تديرها من خارجها (سانلويس)، كما رسخت نمط التنظيم القبلي وجعلته جزءاً من مشروع هيمنتها، وتحول ممثلوها أنفسهم، وهم قوات الجمالة، إلى «بدو رحل» ينتجعون المراعي ويتابعون الأحياء البدوية في تنقلاتها. **** احتاجت فرنسا 18 عاماً بعد احتلالها بلادَنا كي تعلنها «مستعمرةً فرنسيةً»، ثم احتاجت ربع قرن بعد ذلك كي تصنفها كإقليم من أقاليم ما وراء البحار.. وذلك لفرط تشككها في إمكانية إيجاد حياة قابلة للاستمرار والبقاء في هذه البقعة القاحلة والمضطربة من أفريقيا. ******
حين قررت باريس منح الاستقلال لمستعمراتها في منطقة غرب أفريقيا، كانت كلها تتوفر على نواة لقيام دولة وطنية باستثناء موريتانيا، لذا كان الفرنسيون متشككين جداً في إمكانية قيام كيان دولاتي موريتاني يحل محلهم على الأرض. ومن شدة تشككهم ظلوا يماطلون ويسوفون في السماح بإنشاء عاصمة للكيان الجديد، ولم يستطع المختار أن يفتكَّ من ديغول قرارَ إنشاء العاصمة إلا بصعوبة وبعد ثلاثة أسفار إلى باريس. وحتى بعد توقيع القرار وقف الموظفون الفرنسيون والسنغاليون (والموريتانيون أيضاً) بكل قوتهم دون الانتقال من المكاتب الوثيرة والمساكن المريحة في «اندر» إلى الخيام في فلوات كثبان نواكشوط، إلى أن جعلهم المختار أمام الأمر الواقع حين حزم أثاث المكاتب ووضع جميع الملفات والسجلات في كراتين كبيرة وأخذها في الشاحنات نحو «عاصمة اللافتات» التي لا ريدها غيره تقريباً. ثم ظل ديغول يحاول إقناع المختار بالانضمام إلى الفيدرالية المالية، ومن بعدها إلى منظمة الأقاليم الصحراوية، قبل يحدثه أخيراً عن «نوع من الوحدة مع المغرب»، تعبيراً عن عمق تشككه في إمكانية قيام دولة موريتانية! ********
في منشورات فيسبوكية كتبها مثقفون خلال الأيام الماضية الأخيرة حول صعود الظاهرة القبلية وما تمثله من دلالة على انتكاس مشروع الدولة وتردي مفاهيم الحياة السياسية وانحطاط قيمها، حصل الإجماع على وطنية الرئيس المؤسس المختار ولد داداه وحكمته وبعد نظره وصدق سعيه، لكن تردد السؤال: ألا يثبت الفشل الذي سار باتجاهه مشروعنا الوطني خلال العقود الأربعة الماضية أن الذين عارضوا قيام كيان موريتاني مستقل وطالبوا باندماجنا مع المغرب كجزء منه، كانوا على صواب في نهاية المطاف؟ ألم يكن رهان المختار على أجيال الموريتانيين التالية لجيله، ويفترض أنها أجيال أكثر تعلماً، رهاناً في غير محله؟ ألم تثبت العقود الأخيرة أن «البيظان ما يبنو الدول»، أو بالأحرى بعض نخبتهم على الأقل؟