ما أحلى أن يجد التلاميذ السابقون أنفسهم فجأة في حضن مدرستهم، على مدارج طفولتهم، ويقفوا في خشوع أمام هيبة الزمن المقهور،يتحسسون بأرجلهم الأرض التي شهدت التفاصيل الأولى لتشكل شخصياتهم، هنا تخاصموا..هنا أخفوا أشياءهم التافهة…في جانب ذلك الصخر دفنوا قطعا نقدية صغيرة…خلف ذلك الجدار تناولوا وجبة الغداء…سيقرؤون في كل زاوية قصة، وخلف كل حجر حكاية، وعلى كل جدار ملحمة… كم هو جميل أن يتواصل من أظلهم يوما سقف مدرسة واحدة ثم فرقتهم الأيام وألقتهم في مناكب الأرض المختلفة يطاردون آمالا عراضا كالسراب، وأن يتعارف من ولجوا باب المدرسة الواحدة لكن في فترات زمنية مختلفة… المدرسة ملتقى قبل أن تكون جِسر عبور، ومحطة رائعة من ملتقيات الطرق في رحلة الإنسان التي لا تتوقف إلا حين يودع التراب…فيها تلاقت أجيال، وفيها تعانق أطفال، تشجاروا، تصالحوا، وسجلوا معا لحظات بريئة في ذاكراتهم الصغيرة..ذاكرة الطفل لا تموت مهما تراكمت الأحداث، وتزاحمت الوقائع، حتى أدق التفاصيل التي تسكن ركنا متواريا من مِساحة الذاكرة تبقى نقية، عصية على الطمر والإلغاء…حياتنا المدرسية: طفولتنا، ألواحنا، قطع طباشيرنا، خوفنا، طيشنا، شغبنا، هذه الفسيفساء القزحية الجميلة، كلما تراكمت عليها الليالي اغتسلت، واستعصت على درن الشيخوخة والاندثار، وتسرب من شقوق جدار الزمن شعاع هو ذلك الهامس الخفي الذي يقول لك في لحظة صمت رهيبة عابرة: انتبه ياولد، لتجدَك تنسل بسرعة من جلباب الكهولة، وإذا كل تلك الأشياء الجميلة التي أخفيتها في جيوب الذاكرة تناغيك: الطلاسة..التاريخ الهجري..راحة الدقائق العشر، وزحام الطابور أمام بائعات قطع الخبز المُغَمَّسة في السائل الأحمر الذي تفوح منه رائحة التوابل المشهية…قلت إن الإنسان المسافر الذي لا يحط رحاله، المطاردَ بشبح الفناء المخيف، يظل أسير قلقه وإن حاصرته الدنيا بنعمها ونعيمها، لأنه يدرك أن الموت له بالمرصاد، وأنه المنتظرُ الذي لا يُخلف الميعاد، الموت لا ينتظر أن نكمل مشارعينا، لا يبالي بإجهاض أحلامنا، لا يكترث بتحطيم آمالنا، لا يشفق على عز شبابنا، ولا يرحم تفتق عبقرياتنا؛ هو الحق واليقين الذي نحتال عليه لنجعله كذبا، نحاول أن ننسى الشعور به، يخيل إلينا أحيانا أننا نغالطه ونتجاوز بعض فخاخه فننجو، والحق أننا نغالط أنفسنا وننخدع لذواتنا…يهاجر الإنسان عن أرضه، كما العصافير والأسماك، والبذور الطائرة، لكنه لا يهجرها، سيبقى في قلب المغترب لهيب لا تطفئه البرودة المصنعة، وجوع لا يشبعه تنوع الوجبات، وظمأ لا تُرْويه أمطار مدن الضباب، لا شيء يسد فراغ الوطن، قدر الإنسان أن يبقى ملتصقا بأرضه، يحن إلى غبارها، ورمضائها، وعواصف شوارعها، وجنون أطفالها، وإن سكن العمارات التي تلحس جبين القمر…قد نملك المال في مهاجرنا، ونعيش الدَّعة والرخاء، نعيش الحداثة والأناقة والرقي، نصبح رقما في مدينة الآلة، ومدنية الإلة، وعصر الآلة، لكننا سنشعر دائما أننا مدبلجون، أننا فقدنا نسختنا الأصلية، سيتواصل إحساسنا مهما أنكرنا، وتشاغلنا بوجع اسمه الضياع بين متع الرفاه المر والرخيص…هذه المشاعر المختلفة من خوف ورجاء، من يأس وأمل، هي التي تدفع الإنسان إلى وقفات تأمل ومحاسبة للذات…حين يسيح في شريط العمر يدرك أن الأيام انفلتت منه بسرعة، اختفت على حين غفلة منه، خدعته حين أرخى لها الخِطام، سيخفُق قلبه عند بعض محطاتها، عند بعض أحداثها الممتعة التي بقيت منعشا مدهشا يقي الذاكرة وساوس الخرف، والشعور باليأس والموت البطيء…سيتفجر حنينه أنهارا وأنوارا، لكن الزمن الموليَ لا يلتفت أبدا، ولا يتوقف، الماضي قاس جدا لأنه لا يعود، ولم تبق من وسائل عيشه مرة أخرى إلا الذكرى، إلا هذه الوقفات، هذه اللحظات التي نسرِقها من حاضرنا لنخرج من رتابته، من قهره، من عَباءته السميكة، ثم نستحضر أعمارنا الجميلة لنعيشها من جديد شوقا وحنينا وذكرا وذكرى، وبين حطام الليالي، وجلال المكان قد تذرف العيون، قد نبكي ونحن نذوق العذاب اللذيذ.حين يلتقي زملاء الأمس، رفقاء الطفولة في مسرح أحداث طفولتهم، ويرونها تستيقظ وتنتفض من غبار الأسرة المنسية، في وطنهم الأول، في دفء مدرستهم، جدرانِها، صفيرِ الرياح في نوافذها، تساقطِ أوراق شجرها، هنا فقط يستعيدون سعادتهم المفقودة، وبراءتهم المخطوفة، ويعيشون أوقاتا استأذنت الزمن فتأخرت قليلا عن القافلة لتقول للإنسان هذه أنا هل تَذْكُرُ كَمْ تحملتك، كم تقبلت شقاءك البريءَ وجنونك الرائع أيها الشيخ الصغير. هنا فقط نرى في مرآة العمر ذُقُونَنا البريئة في طفولتها، عارية قبل أن تلفها غابات الشعر أو نسلطَ عليها جرفات الصباح، ونرى لِمَمَنا السحماء كربوات فحم صغيرة على رؤوسنا قبل أن تشتعل شيبا، أوتكنسَها الأيام لتبدوَ جرداء كظهر لسان، هنا فقط نرى صفحات وجوهنا صقيلة كمرآة لا أمْتَ فيها ولا غَوْر، قبل أن يحفِر فيها ازدحام الأيام الخطوط الغائرة كأخاديد المستنقعات الجافة…ستقول لك حبات الرمل، والحجارة الصغيرة، والرماد النائم تحت الأرض، سيقول لك طلاء الجدران، وشقوق الأبواب وزوايا الحجرات، ستقول لك أعمدة البهو المبلط المسقوف، سيقول لك كل أولئك ويحك أيها الشيخ تبتل قليلا في محراب طفولتك قبل أن تنتبه وتضبِط ساعتك على الوقت الصحيح.