المروءة والدَّيْنُ / محمد فال بلال
في ثمانينيات القرن الماضي كنا نعلم أن حياة الموظف العام ترتبط ارتباطا وثيقا ومباشرا بدفتر الدَّيون لدى صاحب المتجر المجاور (كرنة مول البتيگ). وعلمنا منذ بداية الألفين أن “الدفاتر” ازدادت أضعافا مضاعفة. ظهر دفتر الغسّال ودفتر الحلاق ودفتر بائع الرصيد (موريتل، وماتل، وشنگيتل) ودفتر الجزار ودفتر الخُضر ودفاتر أخرى لا يعلمها إلّا الله. ويتساوى في الدفاتر جل الموظفين من أسفل الهرم إلى أعلاه، ومن أعلاه إلى أسفله تقريبا. إنهم كلهم – من الحارس والبواب حتى الوزير – بحاجة إلى الاقتراض من صاحب المتجر أو الجزار أو صاحب الشقة المؤجرة أو البنك لتأمين حياتهم وحفظ كرامتهم، لأن رواتبهم لا تمكنهم من ذلك غالبًا.و تحضرني هنا قصة طريفة حدثت في مع أحد القضاة الاجلاء. حضر أمامه خصمان في سنة شدّة وجفاف معروفة باسم عام “العِرْيَه”.
واستمع لهما ثم اتجه إلى تزكية الشهود، فسأل أحدهم: هل لك عائلة وأطفال صغار؟ قال الشاهد نعم! هل لك أقارب وجيران وأصحاب محتاجين؟ قال نعم! هل عليك ديون أو مستحقات مالية؟ قال لا! رفع القاضي رأسه، وقال: كيف ذلك؟ العام عام قحط وجدب، ولديك خيمة وعائلة و أرحام وجيران و أصحاب محتاجين، ولا دين عليك!؟ فإني لا أقبل شهادتك لنقص أو انخرام في المروءة… حدث هذا سنة 1940 (عام العِريَة). وبالعودة إلى الموظف، سواء كان بوابا أو حارسا أو وزيرا، فإن راتبه الشهري – مهما كبُر وعلا – لا يكفي ! خذوها مني: “لخلاص منفوش”! ذلك أنه كلما ارتفع سقفه كلما ارتفع سقف “العار” المطروح على صاحبه وتضاعفت أسباب الاستهلاك. هكذا الدنيا كما يقول المثل: كلما زاد حطبها زاد لهبها. لا علم لي براتب شهري يكفي لتغطية النفقات و الواجبات تجاه العائلة والأقارب والأهل والأصحاب والجار والمجتمع والشارع.إن الموظف العمومي – وزيرا كان أم موظفا عاديا – لا بد وأن يجد نفسه أمام خيارات مرّة: إما الاستدانة الدائمة من تاجر أو بنك للقيام بواجبه؛ وإما إغلاق منزله وجَيبه لمواجهة الحياة؛ وإما الاستقالة والهجرة؛ وإما السقوط فيما هو أسوأ…
ولهذا السبب، سأل القاضي الرجل: هل عليك ديون؟ ولما أجابه “لا”.. رفض شهادته إدراكا منه لعمق العلاقة بين المروءة والدَّيْن في هذا البلد.* دعم الاستهلاك وبناء على ما تقدم، أخلص إلى أن 99% من الموظفين النزهاء غارقون في الدين، ومن ثم أخلص إلى ضرورة أن تفتح للموظفين أبواب “ائتمانات للاستهلاك” (Crédit à la Consommation). ويتطلب الأمر إعادة هيكلة النظام المصرفي ومراجعة عقيدة البنوك ودورها وأهدافها لتكون رافعة حقيقية “للاستهلاك” ودعامة قوية للأسر والأفراد، خاصة وأن حضورها لم يصل إلى المستوى المطلوب في مجال تمويل الاستثمار. لا بد من استحداث أساليب وطرائق عمل وآليات مصرفية جديدة تفتح للموظفين والمواطنين على نطاق واسع باب “القروض الاستهلاكية”: تمويل الصاير، دراسة الأطفال، شراء وسيلة نقل، قطعة أرضية، أجهزة منزلية، حفل زفاف، أو أي مشروع شخصي آخر.. وبالمقابل، لا مانع عندي من تشجيع البنوك والهيئات المانحة وإعطائها “ائتمانات ضريبية” (Crédit d’impôt) مقابل دعمها للاستهلاك بالقروض الميسّرة والقرض الحسن والتبرع. لا بد للنظام المصرفي الموريتاني أن يستيقظ وينهض ليكون أكثر حضورا في تحريك الدورة الاقتصادية والتنمية القاعدية وأقرب لحاجيات المواطنين في الاستهلاك إلى جانبه دوره في تمويل الاستثمار.. بكلمة واحدة: آن للدولة أن تستحدث نظاما ماليا جديدا يؤسس لما يعرف في العالم “بالقروض الاستهلاكية” بشروط سهلة؛ ذلكم هو الضمان الأمثل للحفاظ على بقية أخلاق و مروءة في هذا الوطن العزيز..