مهرجان مدائن التراث : واد من السياسية و واد من الثقافة/ عبد القادر ولد محمد
اذا كانت الثقافة كما يقال هي ما يتبقى بعد ان ننسى كل شيء، فإن السياسة هي أول ما يخطر بالبال عندما تتذكر السلطات العمومية ميدان الثقافة الذي يعتبره جمهور الثقافة ميدانا منسيا
. ومن الطبيعي جدا ان تستدعي السياسة نفسها في مهرجان مدائن التراث و ان تتجلى دعوتها الذاتية في تغيير تسمية هذه التظاهرة السنوية التي صاحبت العشرية المنصرمة حيث تبناها النظام السياسي القائم كخطيبة لانجازاته المدللة على اساس قاعدة لا سابقة و لا لاحقة .
و الواقع ان الاهتمام بثقافة المدن القديمة في الخطاب السياسي سبق تلك العشرية بكثير حيث ان الدولة الموريتانية تبنته في عهود مختلفة يمكن الرجوع إليها بدقة بواسطة تحقيب محكم على مذهب المؤرخين و الاكيد انها عملت بمقتضاه بتسهيل مهام المعهد الموريتاني للبحوث العلمية و الباحثين الذين اهتموا بتراث المدن القديمة و أولائك الذين ساهموا في حفريات كومبي صالح و ازوكي . و بمرافقة الجهود الساعية إلى إدراج مدينة شنقيط الأثرية في التراث العالمي و في سياق التعاون الثنائي مع إسبانيا تم القيام بجهود تذكر وتشكر للحفاظ على تراث مدينة ولاته . كما تم انشاء هئية عمومية تعتني بالمدن القديمة… تلك معطيات يمكن الانطلاق منها كشرط لصحة تقييم ما تم القيام به في الحاضر بالمقارنة مع إنجازات الماضي و بنية تحسين الأداء من اجل مستقبل افضل…
كل ذلك طبقا لقاعدة لا يمل من التذكير بها مفادها أن الدولة تكون استمرارية او لا تكون . و معلوم ان هذه القاعدة تصدرت خطاب ترشح فخامة رئيس الجمهورية الحالي السيد محمد ولد الشيخ الغزواني وحينها استبشر بذكره لها كثير من المومنين بالدولة ..ثم أن السياسة كانت بالطبع حاضرة في مهرجان مدائن التراث بحضور رئيس الجمهورية و بخطابه الذي تحدث فيه على لسان صيحة المظلومين في تاريخ المجتمع الاهلي و ذلك امر مهم بحد ذاته لانه يتعين على الدولة الوطنية ممثلة بأعلى سلطة لها ان تذكر من حين إلى آخر بأنها ماضية في تحقيق مباديء الجمهورية لصالح جميع المواطنين و فئات المجتمع الأهلي و ان مكونات الشعب الموريتاني سواسية كأسنان المشط لا فضل لاحداها على الأخرى.. و تلك رسالة سياسية بامتياز ..
و هنا تجدر الإشارة إلى ان تقدما ملحوظا حدث في هذا الاتجاه حيث ان موريتانيا التي تخرج معظم جيل تاسيسها من مدرسة أبناء الشيوخ لم تعد موجودة أو على الأقل تراجعت صورتها كثيرا في العقلية الجماعية للموريتانيين .. لقد مكنت المدرسة الجمهورية كمصعد اجتماعي للمنحدرين من اطراف المجتمع الاهلي و غيرهم من العصمايين أبناء الشعب البسيط و الفقراء و المساكين و الحفاة العراة من التطاول في الوظائف العمومية و في المال و الاعمال و لم يعد غريبا في يومنا هذا ان ترى من يعتبر نفسه سليل السلاسل و وارث ” الخيام الكبرات” يتودد تذللا لمن يمتلك سلطة الدولة مهما كانت اصوله الفئيوية ..ان الدولة الوطنية وحدها هي التي تستطيع اليوم أن تمنح نفوذا لمن لم يتركه له ابوه في المتاع. .
و ببقى المطلوب من القائمين على شؤونها ان يعملوا جادين على تطبيق العقد الاجتماعي اي عقد المواطنة الذي تاست بموجبه فمن القائمين على الشأن العام من يسعى بإخلاص و كفاءة إلى ذلك و منهم من يخفق عن سوء نية أو عن عجز . و مهما يكن فلا سبيل لرفع المظالم التاريخية و الماضية و الحالية خارج الإطار المحدد لدولة القانون و المؤسسات .. و ذلك إطار بين و عكسه بين و بينهما مشتبهات… و لعل أبلغ استدعاء للسياسة في مهرجان مدائن التراث تجلى في صورة جمعت إلى جانب أعضاء الحكومة و كبار مسؤولي الدولة بين رموز الموالاة بطبقاتها و زعماء المعارضة بحساسياتها و هي صورة تعكس روح الإجماع الوطني الذي يتعين توطيده و تعزيزه بأليات الحوار و التشاور حول الثوابت الوطنية و المصالح العليا لموريتانيتا.
و هنا يتعين التذكير بأن الحوار( أو التشاور ) المنشود لا ينبغي ابدا ان يتحول إلى مجرد عملية توزيع منافع بين السياسين و إنما يجب توظيفه لترسيخ فكرة التناوب السلمي على السلطة و دعم. الديمقراطية الموريتانية و تخليصها من مخلفات الفكر الاحادي و ما نجم عنه من مظاهر النفاق السياسي الذي أضر بالثقافة و بالبلاد .و بالعباد ..