رحل بهدوء إلى جنان الخلد مالئ الدنيا وشاغل الناس/ محمد أمين
ارتحل بهدوء الى جنان الخلد..! ارتحل بعد مائة سنة سعيدة..! رحل بعد قضاء كل التزاماته نحو خالقه.. ونحو عائلته.. ونحو وطنه…لقد كان -وبحق- مالئ الدنيا وشاغل الناس…
وكانوا يجمعون له من حسناتهم كل يوم.. وكان يدرك ذلك.. فظل بموجب ذلك وطوال حياته باسما واريحيا ومحبا للناس..ظل فرحا.. رغم كل ما قوبل به من نكران وجحود.لقد كان شخصية مثقفة ومتعلمة..ضليعا بلغة العرب ..وحافظا لكتاب الله..وعارفا بايام الاقدمين واشعارهم.. وماهرا في كتابة اللغة الفرنسية ومحبا لها كثقافة وكتنظيم.
عمل في التعليم خلال المرحلة الكولونيالية.. وصار مديرا لمدارس ابتدائية عديدة ثم شارك في مسابقة الادارة الترابية وعمل ترجمانا ومديرا ثم اداريا مدنيا بعد سفر علمي قاده لباريس حيث تخرج من معهد الدراسات الادارية لما وراء البحار. اقترح على الرئيس مختار حل الحكومة بعيد احداث 1966 ومعاقبة الجميع بمن فيهم هو نفسه بغية فرض سلطته المهزوزة بسبب المماحكات بين افراد الحكومة.. واضحى مفتشا للداخلية بعد ان كان وزيرا لها..ثم عاد الى الحكومة وقضى جل وقته في وزارة الداخلية حيث لمع نجمه في قيادة مسلسل نزع اسلحة القبائل وتدجينها وتلقينها فكرة المواطنة. لقد كان وزيرا مختلفا عن غيره : اذ كان اقرب لرئيس الوزراء منه لوزير عادي.. وكان رغم عظمة صلاحياته وكثرة اهتماماته يصر على فصل الخاص عن العام في حياته..
وهكذا ظل باب بيته مفتوحا للجميع دون تمييز.لقد كانت الاخبار تأتيه..ولم يكن ينقب في سرائر الناس ولا يتتبع عوراتهم..حيث كانت له شبكة علاقات واسعة ممتدة الى دول الجوار وقد وضعت نفسها تحت تصرفه طوعا ومحبة له فقد كان اصدقاء ولد محمد صالح يشكلون قبيلة جديدة تجد فيه زعيمها ومرجعيتها.لقد كان صمام الامان للنظام الذي وجد نفسه في مواجهة شعب من القبائل ..ومن شيوخ العشائر المتناطحين عند كل بئر..وفوق كل سهل.ويلاحظ المؤرخون ان اغلاق القواعد الفرنسية جعل القبائل تتحشد وتظن ان ايام السيبة لا بد ان تعود.. ولم تكن الدولة الفتية تملك من الوسائل الكثير لكن قوة التحليل والمهارات القيادية جعلت فرض السيادة ممكنا وميسورا.. فادارة تناقضات البدو كانت السبيل الاسهل لقيادتهم.لقد اعجب به كل وزراء الداخلية العرب الذين تصدوا باشكال متفاوتة للمسالة العشائرية.. ومن ذلك الاعجاب ولدت علاقة عظيمة بينه والوزير السعودي الامير نايف بن عبد العزيز..وهي العلاقة التي اثمرت تمويل المملكة للشرطة الموريتانية في ميادين عديدة ليس اقلها بناء وتجهيز المدرسة الوطنية للشرطة.ثم بسبب الوشاية…والمكائد اصبح رئيس الجمهورية يتوجس منه ومن رئيس الاركان احمد ولد بوسيف فعينه رئيسا للمحكمة العليا ثم وزيرا للعدل.في مقامه بالعدل ترك نفس الانطباع الايجابي عند اصناءه في الدول التي زار او اجتمع بقادتها.فبتدخل من رئيس المحكمة العليا.. بقطر تم تمويل قصر العدل الجميل والانيق بهندسته التكعيبية.. اكراما للوزير احمد ولد محمد صالح.
انقض العسكر على السلطة..وكان ثاني شخص يطاله الاعتقال بعد رئيس الجمهورية..وكان ساعتها وزيرا بلا وزارة…!وكانت عقيلة الرئيس بدكار على وشك اجراء تصريح لاذاعة فرنسا تتهمه فيه بتدبير الانقلاب…!سبحان الله..!كانت الحلقة المقربة من رئيس الجمهورية تخاف منه.وفي نفس الوقت كان الانقلابيون يخشون من ردة فعل الرجل..صاحب الشبكة القوية.واعتقد انه لولا سوء الظن لما كان ما كان..على الاقل بالشكل الذي حدث .هكذا وعلى مدار سنوات طويلة عرف السجون والمعتقلات لا لذنب اقترفه وانما كما اسلفت بسبب توجس العساكر ..وقلقهم منه ..وسوء تظننهم.
ثم فهم الناس جميعا مع طول الوقت ان احمد ولد محمد صالح.. قد قرر ان يعتزل السياسة.. وان يبتعد عنها.. محتفظا لنفسه بوجهة نظره.. ولعلاقاته..بكرامتها ولماضيه بما يستحق من صيانة.بعد اعتزاله الطوعي كان منشغلا كثيرا بالقضية المائية بموريتانيا..وذهب الى حقول الوادي الخصيب واقتنى منها حقلا وراح يزرعه. وكان يمكث في شمامة على وخامتها الليالي الطوال ليثبت للناس ان مستقبل هذه البلاد بالقرب من ينابيع الماء وليس في اغوار الصحاري.
وكان ينصح الناس بالزراعة وتعمير الاماكن المبللة…حتى اختاره اهل الزراعة لتمثيلهم في اكثر من موقع .لا احد يستطيع ترجمة هذه الشخصية في سطور..واتمنى ان يكون كتب كتابا عن ذكرياته العظيمة والهامة فقد لعب دورا محوريا في تاسيس هذا الكيان وحافظ عليه وكان محبا لهذه البلاد التى ولد فيها وعاش لا يريد بها بديلا.. فبها وحدها قضى راحاته…ولم يملك شبرا واحدا خارج حوزتها الترابية…وهاهو يدفن في ثراها في يوم مشهود.بعد ان حج..وصام..وصلى..وجاهد في الله ايما جهاد.اللهم ارحمه..واغفر له..وتجاوز عنه..وتكرم عليه..تعازينا لذويه وانجاله الفضلاء ..وبناته الفضليات..واحفاده واسباطهولكل اهل موريتانيا في هذا المصاب العظيم ..ولا حول ولا قوة الا بالله..وانا لله وانا اليه راجعون.