رحلة في المكان والزمان/ محمد فال بلال
أعتزم الخروج من نواكشوط شهر مارس القادم إن شاء الله، لأغير الجو قليلا و أتنفس هواء الريف النقي. وتراودني فكرة استئجار شاحنة قديمة من نوع «ت45» والانطلاق بها من وسط مدينة روصو باتجاه مقطع لحجار عبر طريق : اندَربگها – اجليفطي – بو اغبَيره – ألاگ..
أحلم بأن أزور هذه الأماكن، و أرى ماذا فعل بها الزمن ؟ ماذا خطف منها ؟ وماذا بقى ؟ وما حالها الآن ؟ولكم أن تسألوا ما علاقتي باندربگها و اجليفطي و بو اغبَيره ؟
لماذا أفكر في زيارة أماكن لم أولد فيها، ولم أعش من قبل، ولم أمكث، ولم أتجول .. لا معارف لي فيها، ولا أصدقاء. ما شأنها؟ كل ما في الأمر، أنها تقع على طريق استراتيجي لنقل البضائع والأشخاص ظل لعقود يربط بين روصو و ولايتي “لبراكنه” و “تگانت”. كنا نسميه اختصارا طريق “اندربگها” أو طريق “تولّات”.
قضيت 5 سنوات من طفولتي أمر بهذه الأماكن على متن شاحنة “ت45” قاصدا إعدادية روصو أو عائدا منها. طريق رملي، وعِر، و صعب … وسفر شاق و مرهِق و طويل. نمضي ثلاثة أيام في صراع مرير مع الشقوق والكثبان الرملية الشاهقة. نمشي أمتارا و نتوقف، ثم نمشي كيلومترا ثم نتوقف. وفي كل مرّة نضع صفائح حديدية تحت العجلات (تَولّات) وندفع السيارة حتى تمضي، إلخ.. من روصو إلى ألاگ، لا أثر للحياة إلاّ في 3 نقاط، هي على التوالي: “اندربگها” حيث يوجد رجل نحيف – ملتحي- طويل القامة – يدعى عبد القادر و يشرف على محل تجاري صغير يبيع لنا الشاي والبسكويت وگرته بززّ الأذنين، ويتصدق علينا بسقي الماء مجانا.وبعد “اندربگها” نصل بعد يوم وليلة إلى بئر “اجليفطِي”، ثم “بو اغبيره” في اليوم الموالي ..
و في كلتا المحطتين نجد آلاف المواشي إبلا وغنما وبقرا تسقى بدِلاء ضخمة (جلد ناقة) يرفعها جمل أو فريق ثيران أو حمير من مسافة 100م تقريبا هي عمق البئر .. والدواب التي ترفع الدِلاء يسوقها رجل في سروال قصير، يبدو صلب العضلات، قويا، مدرّبا، حازما، عالما و خبيرا بمجال عمله هذا .. من بعيد يسمع صرير البكرات وسط ضجيج غير عادي يختلط فيه ثغاء الأغنام و خوار الأبقار وحنين الإبل وصراخ الرجال. هنا، يتكرم علينا – غالبا – صاحب السيارة، فيشتري لنا شاة ويطعمنا لحما..
أعتزم القيام برحلة استطلاعية في هذه المنطقة حتى أعانق عبد القادر – إن كان حيا – و أرتوي ما ماء “اندربگها” العذب، وأشتري منها علبة من البسكويت وكيلو من “گرته” صاحبة القشور.. ثم أمضي وأحيي “اجليفطي” و “بو اغبَيره” و أذبح هناك شاة أدفع ثمنها من جيبي .. هذه المحطات تأبى النسيان. مررت بها في عهد الطفولة والبراءة والصفاء، وما زالت محفورة في ذاكرتي مقرونة بصلابة “الإنسان” الموريتاني، و قدرته الهائلة على رفع التحديات و قهر الطبيعة، و علو همته و قوة عزيمته.أحلم بأن أزور هذه المحطات وأطلع على أحوالها، و أقص عليها من أنباء اليوم ما…