الأزمة الروسية الأوكرانية: تركيا بين حليفين/ سنية الحسيني
4 مارس 2022، 11:24 صباحًا
تتأجج نيران الحرب أكثر، وتتصاعد الأزمة الروسية الأوكرانية، في ظل تزمت الموقف الأوكراني، واصراره على المضي قدماً للانتساب للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، والضرب بعرض الحائط بمطالب روسيا الأمنية، التي شُنت الحرب تحت ذريعتها. وتتصاعد العقوبات الغربية الموجعة لروسيا، ومحاولات عزلها إقتصادياً وسياسياً، وتتراكم المساعدات العسكرية والمالية الغربية لاكرانيا، لمساعدتها على الصمود أطول مدة ممكنة في وجه العدوان الروسي، وتخفت الآمال بالتهدئة، بعد أول جولة محادثات روسية أوكرانية، جرت قبل يومين، وخرجت خاوية الوفاض. تخرج تركيا وسط هذا الضباب داعية للتهدئة، ومنتقدة صراحة دور حلف الناتو في هذه الأزمة، معتبرة أن جميع مواقفها لا تخرج عن حدود القول دون أن تصل حد الفعل، عارضة أن تلعب دور الوسيط لوأد نار الفتنة والحرب، فما هي دوافع تركيا للعب هذا الدور؟ وهل لديها رغبة حقيقية في إنهاء هذه الحرب؟
يبدو أن تركيا لم تكن ترغب في وصول الازمة الروسية الأوكرانية حد الحرب، كما أنها تمتلك رغبة حقيقية في عدم استمرارها، وقد تكون تركيا أفضل الخيارات، اذا جاء الحديث عن وساطة خير بين طرفي النزاع. هناك ثلاثة أسباب تؤكد مصلحة تركيا في وقف هذه الحرب، يرتبط السببان الأول والثاني معاً ويترتب أحدهما على الآخر، بينما لا يقل الثالث أهمية عن السببين الأولين. ويدور السبب الأول حول ارتباطات تركيا الاقتصادية بالبلدين المتصارعين، ولعل لغة الأرقام تجيب مباشرة على التساؤلات في علم الاقتصاد. بلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا وتركيا ٣٤.٧ مليار دولار عام ٢٠٢١، حيث تعتبر روسيا واحدة من أهم شركاء تركيا التجاريين، بينما وصل حجم التبادل التجاري بين تركيا وأوكرانيا ٧.٤ مليار دولار في نفس العام، بزيادة قدرت ب ٥٠٪ عن الأعوام السابقة. وتأتي ٧٨٪ من واردات تركيا من الحبوب من روسيا وأوكرانيا معاً، ٦٤.٤٪ منها يأتي من روسيا، بينما ١٣.٤٪ مصدرها أوكرانيا، ونصف احتياجات تركيا من الطاقة تأتي من روسيا، اذ تعد تركيا ثاني أكبر مستورد في العالم للغاز الطبيعي الروسي بعد ألمانيا. كما تعتمد تركيا على البلدين الروسي والأوكراني في مجال السياحة، التي تشكل ٥٪ من دخلها، حيث تعتبر روسيا وألمانيا واوكروانيا بالترتيب أكثر الدول التي تعتمد عليها تركيا في هذا المجال.
تنامت العلاقات الاقتصادية التركية الروسية بشكل كبير خلال السنوات الثماني الماضية. ويعتبر تدشين خط أنابيب الغاز “ترك ستريم” عام ٢٠١٩، أحد أهم المؤشرات المهمة على التعاون الاقتصادي بين البلدين، اذ أنه لا ينقل فقط احتياجات تركيا من الغاز، بل أيضاً ينقل الغاز الروسي إلى جنوب وجنوب شرق أوروبا. ويجعل هذا المشروع تركيا مركز لنقل الغاز إلى أوروبا، تماما كما يجعل خط انابيب “نورد ستريم٢” ألمانيا مركز لنقل الغاز الروسي الى غرب أوروبا. وتدعم روسيا تركيا في تشييد مشاريع إستراتيجية حساسة، لعل على رأسها منح عقد بناء محطة للطاقة النووية على البحر المتوسط من قبل شركة “روساتوم” المملوكة للحكومة الروسية، التي ستوفر لتركيا عند انجازه عام ٣٠٣٠ حوالي ٣٠ ٪ من احتياجات تركيا للطاقة. وتمثل شركات المقاولات التركية العاملة في روسيا حوالي ٢٠٪ من مجمل هذا النوع من الشركات. يأتي ذلك بالإضافة إلى أن تركيا تعتبر أهم مستورد للقمح الروسي، مع العلم أن روسيا أكبر مصدر للقمح في العالم. وتنفق روسيا سنوياً حوالي ٧ مليار دولار على السياحة والسفر الى تركيا، وهناك حوالي ٤.٧ مليون سائح روسي وصلوا إلى تركيا خلال العام الماضي، حيث تشكل نسبتهم حوالي ٢٠٪ من مجمل عدد السائحين.
على الجانب الاخر، تعتبر أوكرانيا مهمة اقتصادياً أيضاً لتركيا، وإن لم يكن ذلك على نفس المستوى الروسي، فحجم التجارة التركية مع روسيا تفوق بستة أضعاف تلك التي مع أوكرانيا، ناهيك عن مشاريعها الاقتصادية الاستراتيجية الشديدة الحساسية معها. وتشير زيارة الرئيس التركي الأخيرة رجب طيب أردوغان الى أوكروانيا مطلع الشهر الماضي إلى الأهمية الاقتصادية لعلاقة تركيا ب أوكرانيا، خصوصاً بعد توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، والتي ستدخل حيز النفاذ مطلع العام القادم، والتي من شأنها أن تضاعف حجم التبادل التجاري بينهما. ورغم أن توقيع تلك الاتفاقية يقع في مصلحة تركيا، التي تتميز صناعتها، خصوصاً الكهربائية منها، بجودة أعلى، وأسعار معقولة، مقارنة بالمنتجات الأوكرانية، الا أن ذلك يرتبط بتوقيع الاتفاقية الاطارية للتعاون في مجال الدفاع ومجال التقنيات العالية والطيران والصناعات الفضائية، التي تشكل أهمية خاصة لأوكروانيا. وتسعى تركيا لأن تصبح من بين أهم مصدري الأسلحة في العالم، وتتبنى استراتيجة تقوم على تطوير صناعاتها الدفاعية وعكفت خلال العشرين عاماً الماضية على بناء ترسانة كبيرة من الطائرات المسيرة، حيث تتصدر أوكرانيا قائمة الدول التي تستورد هذا النوع من الطائرات من تركيا. باعت تركيا لاكرانيا منذ العام ٢٠١٩ عشرات الطائرات الى جانب محطات التحكم والصواريخ والطرادات ذات القدرة العالية على المناورة.
وتعاني تركيا من العقوبات الأميركية التي تعطل مشاريعها الصناعية، خصوصا في مجال الدفاع، بعد أن توطدت علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا. وتعتبر تركيا أن أوكرانيا أحد وسائل حمايتها من الضغوط والعقوبات الغربية، ولا تخرج اتفاقيتها مع أوكرانيا في ذلك المجال الا مخرجاً لتحقيق أهدافها. وكان من بين الاتفاقيات التي وقعتها مؤخراً مع أوكرانيا الشهر الماضي مذكرة لانشاء مركز مشترك على الأراضي الاوكرانية لانتاج وتشغيل وتطوير الجيل الحديث من الطائرات التركية بدون طيار “الدرونز”، والذي تمهد الطريق لانتاج تركي اوكراني مشترك. يأتي ذلك بالإضافة إلى اعتبار تركيا اليوم أحدٍ أبرز المستثمرين الاقتصاديين في أوكرانيا، بالإضافة إلى قيام اكثر من مليونين سائح اوكراني بزيارة تركيا العام الماضي، وتسهيل إجراءات السفر المتبادلة بين البلدين منذ عام ٢٠١٧، حيث لم يعد هناك حاجة لابراز جواز السفر، والاستغناء عنه بطاقة الهوية فقط.
تبرز أهمية الدور الاقتصادي لروسيا وأوكرانيا بالنسبة لتركيا بشكل أكبر عندما تقترن بالسبب الثاني، والذي يتعلق بالوضع الاقتصادي التركي الحالي الذي يعيش اليوم في أسوء حالاته، اذ يتسارع التضخم بشكل ملحوظ ويتزايد العجز في الميزانية العامة، ووصلت احتياطات البنك المركزي التركي إلى منطقة الخطر. وتشهد تركيا، لأول مرة منذ عقود، احتجاجات شعبية ضد ارتفاع أسعار السلع الرئيسية، في خضم انخفاض في شعبية اردوغان، الذي سيخوض الانتخابات العام القادم. وتعد خسارة الليرة التركية لاكثر من ٥٪ من قيمتها بعد أيام بسيطة من الحرب، مؤشر مهم على الضرر الذي سيترتب على استمرار الحرب، في ظل توقعات بانخفاض الواردات من المواد الأساسية، وارتفاع الأسعار التي بدأت في الأرتفاع بالفعل. إن توقيف العمل بخطوط نقل الغاز من روسيا، يعني انقطاع المصدر الرئيس للغاز بالنسبة لتركيا، الأمر الذي يفسر إعلانها عن عدم مشاركتها في فرض عقوبات على روسيا، في ظل تصاعدها من طرف الدول الغربية، مع العلم أن امدادات النفط من روسيا إلى أوروبا عبر أوكرانيا لم تتوقف حتى الان.
يتعلق السبب الرئيس الثالث الخاص برغبة تركيا حل الازمة بين الفرقاء المتحاربين، بالاعتبارات الاستراتيجية لعلاقتها مع البلدين. تتملك تركيا علاقة استراتيجية شديدة الحساسية مع روسيا، بدأت تتبلور بشكل خاص بعد محاولة الانقلاب الأخيرة ضد أردوغان عام ٢٠١٦. وجاء تحول ثقة تركيا عن الغرب باتجاه روسيا بسبب موقف الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في عدد من المواقف، لعل أهمها تدخل أميركا لدعم الجماعات الكردية المسلحة في شمال سوريا، والذين تعتبرهم تركيا جماعات إرهابية، وعدم موافقة حلف الناتو على تزويد تركيا بالطائرات القتالية “اف ٣٥” أو المشاركة في عمليات تطويرها، كاعضاء الحلف الاخرين. كذلك تعتقد تركيا بان الولايات المتحدة وراء انقلاب عام ٢٠١٦، خصوصاً لأنها تحمي المعارض “فتح الله غولن” وترفض تسليمه لتركيا، ناهيك عن رفض الاتحاد الأوروبي حتى اليوم الموافقة على انضمام تركيا اليه، والذي قام اردوغان بالتذكير بهذا الرفض، عندما تم الإعلان عن قبول أوكرانيا في الاتحاد أمس. وعلى الرغم من علاقة التنافس الاستراتيجي التاريخية بين تركيا وروسيا، تعتقد تركيا أن علاقتها مع روسيا يمكن أن تحقق لها التوزان مع الغرب. إن ذلك يفسر سياسات روسيا وتركيا القائمة على التنافس الظاهر في العديد من المناطق في سوريا وليبيا والقوقاز، الا أنه يبقى تنافساً مضبوطاً، محكوماً بالتفاهم بين البلدين. كذلك تشكل أوكرانيا أهمية استراتيجية لتركيا في ظل الصراع التركي الروسي في البحر الأسود، والمنطقة الشديدة الأهمية للبلدين الروسي والتركي، اذ تعمل أوكرانيا، ذات العلاقة المتوترة مع روسيا، على خلق نوع من التوازن مع روسيا في هذه المنطقة.
في ظل الاعتبارات السابقة، تدخلت تركيا في هذه الحرب وأعلنت لأول مرة عن وجود حالة حرب بين روسيا وأوكرانيا، والذي جاء بعد مطالبة أوكرانية، والتي بدت راضية عن موقف أنقرة، لما يترتب على ذلك تفعيل العمل بمعاهدة مونترو وقت الحرب. ووافقت روسيا على اعلان تركيا بتفعيل العمل بتلك المعاهدة ، وأكدت سحب طلبها الخاص بالسماح لسفن غير مسجلة ضمن اسطول البحر الأسود بعبور المضايق التركية باتجاه البحر الأسود. وعلى الرغم من أن المتضرر الأول ظاهرياً في تفعيل عمل هذه المعاهدة هو الطرف الروسي، على أساس عدم مقارنة القوة البحرية الاوركرانية بتلك الروسية في البحر الأسود، حيث تمنح المادة ١٩ من المعاهدة الحق لتركيا، بصفتها الطرف المتحكم بحركة الملاحة في مضيقي البوسفور والدردنيل، في رفض تمرير السفن الحربية لأطراف النزاع. الا أنه ليس من المتوقع أن تتأثر روسيا بهذا القرار خلال فترة الحرب، التي لا يعتقد أن تتجاوز الشهرين، اذ قامت روسيا خلال الشهر الماضي بحشد سفنها الحربية وتجهيزها في منطقة البحر الاسود، وليس من المتوقع أن تحتاج روسيا لاخراج أي منها الان، اذ تحظر الاتفاقية ذلك، كما أنه من الممكن لاي سفينة حربية روسية مسجلة ضمن منطقة البحر الأسود بالعودة، اذ تسمح الاتفاقية لهذه الفئة من السفن بالعودة إلى قواعدها.
تسعى تركيا لتحقيق السلام ووقف الحرب المشتعلة بين حليفيها، وهذا يؤكد تأكيدها بعدم رغبتها التخلي عن أي منهما، حتى وإن فعلت العمل بالمادة ١٩ من معاهدة مونترو ضد روسيا، أو منحت الطائرات المسيرة لاوكرانيا لاستخدامها ضد روسيا. وعلى الرغم من أن هذا النوع من الطائرات قد أثبت فعاليته في التغلب على الأنظمة الدفاعية الروسية المختلفة، ونجح بشكل لافت في حروب ليبيا وسوريا والبلقان، تبقى فعاليتها في هذا النوع من الحروب محدودة ولا تحسم النتائج في هذا النوع من المعارك.