لقمة فوق النار…/ المرتضى محمد أشفاق
ما كنت أحسب أن في مستوى المرفق الذي خدمت فيه خمسا وثلاثين سنة شيئا يستحق أن تمتد إليه يد الإنسان، وتستعد لبذل ما فوق الجهد من وسائل طبيعية للحصول عليه…
كتبت مرة أن الترقيات سعت إلي زحفا، كأني أملد الكتفين لا أملك مؤهلات…أقر أني رفضت الرافعات السياسية وهي هي قدرةً على رفع أحمال المقعدين العزل من صفات الموظف النظيف، لأني أكرر دائما أن السياسة عكاز يتوكأ عليه العرجان والضعفاء، أما أنا فقد أنعم الله علي برجلين صحيحتين، وكم أشفقت على الواقفين في طابور انتظار طويل يتوسلون فيه أمة من البخلاء الأسخياء بالوعود المخلوفة..
عرفت في الفترة التي كنت فيها رئيس مؤسسة ثانوية حياة غريبة، مزيجا من أحداث متعددة، في دائرة أقطابها مختلفون جدا، التلاميذ وهم محور وهدف العملية التربوية بخطامها، وآباء التلاميذ وهم شريك لا يميز كثير منهم بين ما له وما عليه، والعاملون في المؤسسات مؤطرين وأساتذة وعمالا آخرين، ثم السلطات الإدارية حكاما وولاة، وما أدراك ما السلطات الإدارية، وما أدراك كيف يزعم بعضهم أن الموظفين تحت وصايتهم قطيع من غلمان صغار لم يبلغوا سن الرشد، لا يعون ولا يفقهون شيئا، ولا ينبغي أن يتنفسوا إلا بعلمهم وإذنهم.. مرض استعلاء يصيب أغبياءنا كلما أتيحت لهم فرصة قيادية ولو كانت رئاسة مكتب تصويت ليوم وبعض يوم في قرية ريفية معزولة، نسبة تسعين في المائة من المسجلين فيهم لم يوجدوا أصلا من نسل آدم …
هذه التفاصيل كلها جزء من مواضيع أخرى عجيبة، مسلية أحيانا، ومؤلمة أطوارا، تنام الآن في دفتر مذكراتي حتى يأذن الله لها بالخروج…في السنوات الأخيرة من الخدمة، وأنا مدرك حجم الانهيار الذي يعيشه التعليم، والذي لا أفتأ أذكر أنه ابن خداج أنجبته نكبة 1999، التي حطمت الآمال، وكانت سببا في نكسة تلاحقنا اليوم هي كارثة انحطاط المستوى لا في المعارف فحسب بل في الأخلاق، والوعي، والإدراك…
شعرت عندما بسطت تلك النكبة سلطانها على المؤسسات التعليمية بغربة مؤلمة، وعشت في نفسي بشخصيتين متناقضتين، أولاهما واجبي المهني والأخلاقي وقبل ذلك كله الديني في بذل الجهد غير ناقص ما استطعت في ما ائتمنت عليه، والثانية عدم قناعتي بما أمارس من مهام، ورأيتني في كثير من الأوقات ممثلا فاشلا، وحالب ناقته في الأضاة…لكنني سآكل لقمة صغيرة بطعم خاص، من مائدة المذكرات التي ما زالت على النار..
في بداية افتتاح العام الدراسي تعرف المؤسسات موجات مختلفة من وافدين ومغادرين من التلاميذ، في ظروف اكتظاظ خانق تعيشها الفصول، وكان صاحبنا يرتاح لكثرة المغادرين، التي ستخلق متنفسا نسبيا داخل الأقسام، لذلك كان يتحفظ على قبول الوافدين حتى تتحدد الأعداد، وتظهر الفراغات…
نعم هو واهم، يزعم أنه مسؤول، وأن السلطة الوصية مسؤولة في تزويد المؤسسة بالأثاث والكتب وغير ذلك من اللوازم المدرسية عن الأعداد التي أرسلتها في تقارير الافتتاح فقط، وأي زيادة في أعداد التلاميذ ستكون على حساب المسجلين أصلا، فتنقص من معداتهم، وكتبهم، وتضايقهم على الطاولات، وغير ذلك من تفاصيل غير لذيذة…دخلت علي سيدة سمراء(كَوْرِيَّهْ)، مهذبة، متمدنة، على جسدها أطلال جمال لم تكنسها عوامل التعرية، ولم تستسلم دفاعاتها لغول الزمن، قدمت نفسها أنها موظفة جديدة في المدينة من طرف منظمة غير حكومية، وطلبت تسجيل بنتها في السادس الرياضي، فاعتذرتُ أنه لا يمكن ذلك إلا بعد التأكد من وجود فراغات في القسم من مغادرين، وانتزعت مني رزانتها، وسرعة تقبلها وتفهمها لاعتذاري وعدا بالعودة بعد أسبوعين…عادت بعد أسبوع تطلب السماح للتلميذة بالاستماع ريثما يتيسر تسجيلها، فكرت بشروط قد لا تخطر ببال البعض، أن أوافق على أن تتعهد بأن لا تجلس على الطاولة حتى يجلس كل الرسميين، أن لا تسأل الأستاذ لأن الوقت للرسميين، أن لا تشرب من ماء المؤسسة لأن الماء للرسميين…
أعرف أن بعضنا سيقول حين يقرأ هذه الكلمات(ينسخك يذ من التشدد والدناءه)انتهى الأجل وعاودت المرأة في صبر، ولباقة، فأخبرتها أن في القسم مقعدا لبنتها.. فحصت عناصر الملف ووثيقة التحويل، وسجلتها في اللوائح وسلمتها ورقة إلى الرقابة العامة لتسجيلها، ومنحها بطاقة دخول…لم تستطع إخفاء فرحها، والتعبير عن امتنانها، ولما أكملت إجراءات التسجيل، ودخلت ابنتها الفصل تلميذة رسمية، دقت المرأة علي باب المكتب من جديد، دخلت وهي تمسك بمقبضه لتغلقه، فطلبت منها أن تترك الباب مفتوحا، تقدمت إلي، وعبرت من جديد عن شكرها، وفرحها لتسجيل بنتها، وانطلق لسانها بفرنسية بليغة تخيرت ألفاظها وأحسنت ترتيب تراكيبها، حسبكم أني فهمتها، بل راقت لي كثيرا، ثم فتحت حقيبتها اليدوية بهدوء وهي تنظر إلى الباب، وأخرجت ظرفا غير ضامر ووضعته على المكتب وأرادت أن تغادر بصمت، استوقفتها، وسألتها ما بال هذا الظرف سيدتي الكريمة، فاضطربت، وتلعثمت، وقرأت في وجهها لأول مرة شبه انكسار، وقالت:non, c’est justement un cadeau pour les enfants..قلت لها:…mais pourquoi tu donnes un cadeau pour mes enfants…ثم أمرتها أن تأخذ الظرف وترجعه إلى حقيبتها ففعلت وهي تتفحص وجهي في استنكار واستغراب، وقلت لها إنني أعفو عن هذه الإساءة لأني أعرف أنها أرادت نقيضها، وشرحت لها أن تسجيل ابنتها حق مشروع لها، ويدخل في المهمة التي أتقاضى عليها راتبي، فانسحبت معتذرة مرتبكة…بعد ذلك بأسبوع قصدت إحدى الأسر غرب المدينة للصلة، وفي عودتي رأيت جموعا فوق سطح أحد المنازل تلوح لي بالتحية، ويهتفون بلقبي الوظيفي، وخيل إلي أن صاحبتي تشير إلي لتُرِيَ الجموع كائنا غريبا…وصلتني الرسالة القاسية، وآلمتني كثيرا….